ما يُباع حاليًا هو لزوم مراجعة الموروث الإسلامي وتجديده وتحديثه ولبرلته وإدخاله في مسلكيات إصلاحية اعتذارية، وهو ما يعني، في المحصلة النهائية، أن المشكلة إسلامية-إسلامية. أن يُلِم العمى النقدي بالجميع تجاه الدولة الحديثة والفكر الليبرالي، وأن تتسع حدقة النقد فقط تجاه كل ما هو إسلامي، هو ما يُطرح علينا الآن وهنا، وهو أيضًا ما يزيف رؤيتنا لواقع الأمر. ما أروم المجادلة فيه أن "الإرهاب"، وبالتحديد في طبعته "الداعشيّة"، يعبِّر عن مأزق حداثي بالدرجة الأولى.
هدفت الدولة العربية الحديثة إلى إخضاع كل البنى والتكوينات الاقتصادية والاجتماعية غير الحديثة، أو بالأحرى قبل الحديثة، أسواء عن طريق محوها تمامًا أو تهميشها أو إعادة مفصلتها أو عقلنتها/ترشيدها داخل الجهاز البيروقراطي للدولة. كما عملت على خلق هوية أُم يجتمع حولها الناس ليقدِّموا الولاء لميتافيزيقيتها وتعاليها، لكن بمرور الزمن والاختبارات ظهر فشل وخواء هذه الهوية.
بطبيعة الحال لم تكن عمليات العقلنة هذه بنفس سطوة قرينتها في الدولة الغربية، لكن ما تشترك فيه مشاريع التحديث الناجحة هناك والفاشلة هنا، هو إنتاج ذوات حديثة نرجسية ومفككة، بتعبير أدورنو. يتم هذا في الدولة الغربية بفعل التطور الرأسمالي والضبط والترويض من قِبل أجهزة الدولة، ويتم في الدولة العربية بفعل إخضاع التكوينات القديمة وخواء الهوية الأُم، لكن يحدث أن تتعزز هذه النرجسية هناك في الفاشية والنازية، بينما تتعزز هنا في العودة إلى الآلهة القديمة في أشد أشكالها الطائفية والإثنية بؤسًا.
ما يجمع بين الألماني والتونسي الموجودين في "داعش" ليس هو الإسلام فقط، وليس هو الإسلام بالدرجة الأولى، بل نرجسية الذات الحديثة وتشظيها، فكما يشير وائل حلاق: "أدَّت انقسامات الذات الداخلية إلى فرد نرجسي يستمد مرجعيته ومعناه مما هو غير شخصي ومن أنماط القوة المثالية (ممثلة في القومية والفاشية والنازية،… إلخ) التي ساقته إلى شعور زائف بالشمول. وتجد الأنا النرجسية في أنواع القوة هذه ملاذًا ومستقرًا بل وأرضًا".
من هنا لا تكمن أهمية "داعش" الكبرى في الطريقة التي يعبِّر بها عن نفسه، لكن فيما يعبِّر عنه وجوده بكل ما فيه من كوزموبوليتانية. بالتالي، لا ينبغي تلخيص القضية في قيام هذا التنظيم بتطويع منجزات الحداثة، وعلى وجه الخصوص الميدياوية منها، ضدَّ الحداثة نفسها، بل النظر إلى تصوراته الطوباوية والكونية والأخلاقية بل والقيامية في علاقاتها وارتباطاتها بالحداثة، أي النظر إليه كتعبير عن المأزق الحداثي.
ومن هنا أيضًا لا ينبغي التعاطي مع أدبيات "داعش" ومصادره الفكرية من منطلق تراثيتها، لكن من منظور يأخذ سياسات الاختيار والانتقاء وأسسها الاجتماعية والنفسانية في الاعتبار. فالإشكالية ليست ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، وإنما الأرضية الأخلاقية التي توفّرها نصوص هؤلاء في عالم اليوم، أو على وجه التحديد المبرر وراء هذه القراءات التحريضية والدموية للموروث الديني.
في ثمانينيات القرن المنصرم، بعد الثورة الإيرانية في عام 1979، تم ربط "الإرهاب الإسلامي" بالمذهب الشيعي وببنية التشيع السياسي، ليس فقط من قِبل صناع القرار الغربيين، لكن أيضًا من قِبل حلفائهم العرب. بيد أنه بمرور السنين، وبعد حرب الخليج الثانية في 1991، تم ربط الإسلام السنّي بالإرهاب أيضًا. وهي أمور تتحكم فيها المصالح الغربية في المنطقة.
في واقع الأمر، إن المشكلة تتجاوز الإسلام وما يحمله من مذاهب وتراثات، ليحضر فيها المشروع الحداثي والذوات الحديثة التي تنتج عن هذا المشروع، أو تلك التي يقع عليها التحديث بكل رعونة ونزق. هذه الذوات المتشظية هي ابنة هذا المشروع، وهي تعمل على تمثله في كل فظائعها، وعلى نحو دقيق جدًا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.