تضامني المطلق مع الأبرياء الذين سقطوا في هجمات باريس الجبانة، مع القلوب الحزينة والأعين الدامعة، مع فرنسا الأنوار والحب والجمال، فرنسا العطور الفاخرة والآداب الجملية والقيم الإنسانية. التضامن مع ضحايا الغدر والجريمة المنظمة غير قابل للمزايدة وأيضا غير قابل للاستغلال. التضامن مع الضحايا والتعاطف مع الناس والشعوب في مآسيهم واجب فيه أن يكون مطلقا لكن مع الأنظمة وصانعي السياسات يجوز بل يحق أن يكون مشروطا.
مشروطا باحترام مشاعر الناس لا استغلالها، بالتحلي بأرقى درجات الحكمة لا تغذية الكراهية والعنصرية، بعدم تمرير قوانين وتشريعات للحد من استقبال المهاجرين أو منح الدولة شيك على بياض لترحيل من تشاء، أو تغيير موقف الدولة من قضايا مصيرية للشعوب المستضعفة (صحيفة الفاينانشال تايمز تحدثت عن إمكانية تغيير فرنسا موقفها من النظام السوري بعد الهجمات).
العنوان الأكبر لما حصل في باريس يوم 13 نونبر/ نوفمبر هو فشل الفعل السياسي العالمي ولا أخلاقية السياسات الخارجية للدول القوية التي تضحي بالمبادئ من أجل المصالح ، من أجل تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، من أجل صفقات شراء الأسلحة والعتاد العسكري والبترول والأموال وتكريس التخلف والتبعية في المستعمرات السابقة.
صناع القرار بهذه الدول هم أول من يعي أن الحل الفعلي للقضاء على سيوف وأحزمة "داعش" العابرة للقارات هو التخلي عن التوصيات "العلمية" لمراكز البحوث الصهيونية التوجه التي تـُنظّر لحل متناقض على الأرض: دعم أنظمة منتجة ومصنعة وناشرة للإرهاب من أجل حصار الإرهاب !
الفاجعة التي وقعت في تاريخ مشؤوم في المخيال الخرافي الأوروبي (كل جمعة تصادف اليوم 13 من أحد الأشهر) تقول عكس تلك التوصيات. إذا كان الحصار ينبني ضمنيا على جعل الرقعة العربية هي الحيز الجغرافي الذي ينال الحصة الأكبر من شلالات الدماء والأشلاء المتناثرة والأحزان والمآسي، فهاهو الإرهاب يؤكد بضربة أعنف خروجه عن هذا المنطق . في عام واحد ضرب فرنسا مرتين. دون أن يعني ذلك عدم تحمل النظام الفرنسي مسؤولية ما وقع.
فالهجمات السبع تلقي بظلال الشك على قدرات الاستخبارات الفرنسية في حماية مواطني الجمهورية وفعالية خططها وفي صدارتها مخطط اليقظة VigiPirate الذي يتضمن 300 إجراء من بينها تفتيش البضائع ومراقبة المواصلات والساحات والمواقع العمومية الشهيرة والسياحية وولوج الأشخاص لمقرات المؤسسات وتفتيش الجماهير عند الدخول لملاعب كرة القدم وخلال الأحداث الكبرى.
والنظام الفرنسي مطالب بتحمل مسؤوليته ومصارحة الشعب في حال وجود "تقصير أمني" في حماية ترابه، وعلى الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) أن تستدعي وزير الداخلية، برنار كازانوف، وتطالبه بتوضيحات تفسر للرأي العام المحلي والعالمي كيف أمكن لثلاثة فرق إرهابية أن تتجول بشوارع العاصمة حاملة أسلحة كلاشينكوف وأحزمة ناسفة.
أما خطاب الرئيس الأمريكي ، باراك أوباما، الذي جاء سريعا (قبل خطاب الرئيس الفرنسي) وقويا وحاملا لعدة رسائل دبلوماسية والذي قال فيه إن "الهجوم على فرنسا وشعبها هجوم على الإنسانية جمعاء والقيم الكونية التي نتقاسمها" فقد جاء يكرّس الثنائية الضدية Binary opposition بين الغرب وجراحه والشرق ومآسيه. الهجوم الأول على فرنسا استحق مسيرة منافقة شارك فيه كافة زعماء الدول الغربية، والفاجعة الأخيرة استحقت أن توصف بأنها هجوم على الإنسانية جمعاء..ماذا عن الدم العربي النازف بلا آخر في الشرق الأوسط؟ ماذا عن مجزرة رابعة في مصر، وجريمة حرق مدينة بكاملها بالفسفور الأبيض في فلسطين، وقتل الأسر، وإلقاء البراميل المتفجرة على المدنيين في سوريا. لا توجد بين المآسي فروق. صناعة الموت في الشرق الأوسط تتم بمباركة غربية واضحة.
الأمر الأخير الذي يستحق التأمل في مأساة باريس هو أن "داعش" أكد بالفعل أنه تنظيم مسلح وظيفي functional، أي لا يتحدد دوره ومعناه بالفكرة التي يحملها وإنما بالدور الذي يؤديه في نظام أكبر هو أحد مكوناته. "داعش" تنفذ عمليات إجرامية ضد المسلمين أنفسهم وباسم دينهم. وبهذا التناقض تؤكد دورها الوظيفي. هل يفكر زعماء التنظيم الآن في الإحباط الذي تشعر به الجاليات المسلمة بالغرب؟ بالاعتداءات التي تطالهم بعد كل حادث مشابه؟ في الأبرياء الذين سقطوا في متحف باردو بتونس؟ في الطائرة الروسية؟ في العراق وسوريا؟ في حرمة اقتتال أبناء الدين الواحد؟ أي من هذه الأعمال كان ليرضاها النبي الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه.."داعش" لا يملك جوابا..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.