لماذا يرتكب السُنّة المجازر الطائفيّة؟

لا يأتي استنكار السؤال من كون الجماعة السنيّة منزّهة عن ارتكاب تجاوزات أو حتّى جرائم في حقّ الآخرين، بل يأتي من دوافع السؤال الذي يقوم صاحبه، ولو بدون أن يقصد، بالربط العضوي ما بين المسلمين السنّة والإرهاب، بحيث تكون هذه الانتهاكات (من وجهة نظر السائل) شديدة الالتصاق بجوهر الإسلام السنّي تحديداً.

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/13 الساعة 06:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/13 الساعة 06:58 بتوقيت غرينتش

بقدر ما يبدو سؤالٌ كهذا سؤالاً ساذجاً بعيداً عن الموضوعيّة وعن الإلمام بأبسط بديهيّات التاريخ المعاصر والقديم فإنّه لا يزال مطروحاً وبشدّة عند كثيرين: بعضهم مصاب بالإسلاموفوبيا التي اجتاحت العالم، سيّما بعد أحداث سبتمبر، وبعضهم الآخر ينتمي إلى طوائف تعيش صراعات سياسيّة مع فئات من المسلمين السنّة في أماكن متفرّقة من المنطقة.. لا يأتي استنكار السؤال من كون الجماعة السنيّة منزّهة عن ارتكاب تجاوزات أو حتّى جرائم في حقّ الآخرين، بل يأتي من دوافع السؤال الذي يقوم صاحبه، ولو بدون أن يقصد، بالربط العضوي ما بين المسلمين السنّة والإرهاب، بحيث تكون هذه الانتهاكات (من وجهة نظر السائل) شديدة الالتصاق بجوهر الإسلام السنّي تحديداً. هذه النزعة "الجوهرانيّة" تجعل من الشرِّ صفة جوهريّة مطلقة عند الجماعة أو الجماعات السنيّة دون تمييز بينها.. يمتاز أصحاب هذه النزعة بقراءة انتقائيّة وتعميميّة في ذات الوقت لمجريات الواقع والتاريخ. ولا تفلح الأمثلة عن الانتهاكات التي تقوم بها جماعات أخرى (تنتمي إلى إثنيّات وأديان مختلفة) في تغيير القناعة السائدة التي تجعل العنف محتكراً من قبل جماعات الإسلام السنّي، أو الإسلام بشكل عام، إذ غالباً ما يفشل النقاش مع أصحاب هذا المنطق الجوهراني التعميميّ بالرغم من كثرة الأمثلة التي تدحض الفكرة الساذجة بأمثلة معاكسة تماماً، وهي أمثلة من الوضوح بمكان و ليس آخرها المذابح التي تتعرّص لها الأقليّة في بورما على يد الأكثرية البوذيّة في بورما، والتي تُعتبر بحسب الأمم المتحدة أكثر الأقليّات في العالم اضطهاداً من قبل الأنظمة الحاكمة في بورما..

ينطلق أصحاب هذا الموقف من حقائق ملموسة لا يمكن نكرانها، سيّما بعد ثورات الربيع العربي التي فسحت المجال للفوضى فحدثت انتهاكات متفرّقة بحقّ الأقليّات الطائفيّة أو العرقيّة، قامت بها جماعات وتنظيمات تحسب نفسها على الإسلام السنّي بالرغم من أن عامّة المسلمين يرون أنّ المرجعيّة المخابراتيّة لبعض هذه الجماعات تبدو أكثر وضوحاً من مرجعيّتها الإسلاميّة! كتنظيم الدولة المتطرّف، الذي ارتكب جرائم عديدة بحقّ إثنيّات وطوائف دينيّة مختلفة، إن كان في العراق أو في سوريا أو ليبيا ومصر. ولكنّ الأمر الذي زاد من تعقيد المشهد هو تورّط بعض الجماعات السلفيّة التي تحظى بشعبيّة وقبول على الساحة السوريّة، كجبهة النصرة، في بعض الانتهاكات والجرائم، لعلّ أكثرها دمويّة ما حدث نتيجة الاحتكاك بين أفراد من النصرة وبعض العائلات الدرزيّة في محافظة إدلب.. ولكن هذه الوقائع، وإن كانت جزءاً من الحقيقة، فإنّها يجب ألّا تحجب جزءاً آخر من الوقائع توثّقه المنظمات الحقوقيّة، حيث تُحمّل فيه ميليشيات تابعة للنظام (ذات أيديولوجيا علويّة أو شيعيّة) مسؤوليّة ارتكاب مجازر تطهير عرقي وطائفي، يضاف إلى ذلك حوادث التطهير العرقي التي قامت بها جماعات لا تنطلق من أرضيّة دينيّة أصلاً كوحدات الحماية الشعبيّة الكرديّة في شمال سوريا.. ممّا يُفقد فرضيّة الارتباط بين الفكر السنّي والعنف الدعائم المنطقيّة التي تستند إليها..

ومن الملاحظ نزوع أصحاب هذا المنطق الواهي إلى تعميم فكرتهم الخاطئة على حوادث تاريخيّة قديمة لا تخدم ادعاءاتهم، فهؤلاء أنفسهم يتحدّثون عن مجازر ارتكبها المسلمون السنّة بحق المسيحيّين في دمشق، في إشارة إلى أحداث 1860 م التي هزّت سوريا ولبنان.. حيث تشير الروايات التاريخيّة إلى حدوث مجازر راح ضحيّـتها الآلاف من المسيحيّين، وبعض هذه الروايات تحدّثت عن القضاء على نسبة كبيرة من الوجود المسيحي في المدينة..

وفي الواقع، حتّى هذه الفتنة لم تكن سنيّة مسيحيّة في انطلاقتها، بل بدأت إرهاصاتها في لبنان في العام 1840 على شكل حراك اجتماعي تحوّل إلى ثورة للفلاحين على النظام الإقطاعيّ، وحقّقت بعضاً من أهدافها حين كسرت سلطة الإقطاعيّين الموارنة، ثمّ ما لبثت أن تحوّلت إلى فتنة درزيّة مسيحيّة بعد أن اصطدم الفلاحون (بدعم من الكنيسة) مع الإقطاعيّين الدروز الذين حصلوا على دعم السلطة العثمانيّة آنذاك.. فعليّاً، كانت المعارك الدمويّة قد بدأت بين الدروز والموارنة حيث قُتل الآلاف من الطرفين، وتهدّمت مئات القرى قبل أن تمتدّ الفتنة إلى دمشق ويتواطأ كثير من غوغاء المسلمين السنّة مع المليشيا الدرزيّة التي وصلت قاصدةً المسيحيّين، فحدثت مجازر راح ضحيّـتها الآلاف واستبيحت أعراضهم وأموالهم.. وعلى الرغم من تورّط الكثير من رعاع السنّة في الفتنة إلا أنّ هذا الحدث لا يكفي بحدّ ذاته لاعتبار الجماعة السنّية جماعة دمويّة (حتّى إن أردنا الاعتماد على الحدث نفسه بدون مقدماته وأسبابه) فالمصادر تشير أيضاً إلى قيام زعماء من السنّة بحماية أعداد كبيرة من المسيحيّين في دمشق وبيروت، على رأسهم الأمير عبد القادر الجزائري ومعه

كثير من مشايخ وأعيان السنّة في ذلك الوقت في كلٍ من دمشق وبيروت.. ولا شكّ في أنّ تلك الفتنة كانت حقبة سوداء في تاريخ المنطقة، إلّا أن تحميل المسؤولية لطرفٍ بعينه، إن كان من السنّة أو الدروز أو الموارنة، ثم محاولة تحميل ممارسات الفتنة على جوهر الثقافة التي تتبنّاها كل طائفة هي محاولة غير بريئة على الإطلاق..

يحتاج العنف الممارس في النزاعات الأهليّة إلى نقد ومعالجة ثقافية واجتماعيّة إنسانيّة تنطلق من سويّة فوق طائفيّة أو فوق قوميّة وحزبيّة. فحين ننظر إلى العنف الذي تمارسه الجماعة السنيّة نظرة مماثلة للعنف الممارس من قبل جماعات وطوائف أخرى (مرّت بظروف مماثلة) يصبح بالإمكان فهم الفتن ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي، وضمن الظروف السياسيّة التي أدّت إليها وساعدت في تأجيجها للاستفادة من نتائجها الكارثيّة. عند ذلك فقط يمكن الوصول إلى حلول وقائيّة تستند إلى معالجة تاريخيّة اجتماعية دقيقة، وغير ومتأثّرة بموقف أيديولوجي مسبق.. بذلك يكون السنّة، كغيرهم، جماعة تتأثّر بمحيطها وظرفها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بقدر قد يفوق تأثرها بالثغرات الفقهيّة، وهي ثغرات موجودة بطبيعة الحال، إن كان عند الجماعة السنيّة أو عند غيرها من الجماعات والطوائف الدينيّة والإثنيّة، وساهم في تشكيلها ظروف وصراعات مماثلة سابقة وتحتاج بدورها إلى عمل فقهيٍّ ثقافيٍّ ضمن إطار نهضة شاملة لا تقتصر على الجانب الفكريّ.. وأكاد أجزم بأنّ معالجة العنف بكونه مكوّناً أصيلاً لدى الجماعة السنيّة ينمّ عن جهل كبير بالتاريخ، إن لم نقل أنّه ينطلق من موقفٍ طائفي باطني، أو أيديولوجي مسبق، معادٍ لهذه الجماعة ولمجمل ثقافتها..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد