كان الاثنان منهمكين في الحديث عن شؤون الصفقة المطروحة، مستثمر عربي زائر وفتاة شقراء من أهل البلاد، احتدم الحديث في المقهى العام، حولهما الموسيقى والقهوة والابتسامات التي تمنح الوجوه نضارتها، فجأة أطفأت الفتاة سيجارتها، وأستأذنت أن تغيب لبرهة، آذان المغرب أتى كعادته عربيا في هذا الوطن الأوربي، لكن صاحبنا لم يكن يتخيل أن الفتاة إنما أستأذنت لتهرول نحو بيغوفا، راقبها وهي تلملم شعرها الطويل، وتخرج من حقيبتها شالا لتضعه على رأسها أستعدادا للصلاة في هذا المسجد العتيق
في المرة الأولى التي زرتها قيل لي أن هنا في العاصمة وحولها زهاء ثمانين مسجدا، اكتفى تيتو بإغلاق غالبيتها ولم يفعل مثل الجارات الشيوعيات الأخريات اللاتي حولنها إلى أسطبلات وحظائر للحيوانات، كنت مبهورا بطرازها المعماري، مندهشا بوجودها هنا كرمز أصيل، وليس وافدا كالمراكز الإسلامية في أوربا، لكنها كلها كانت خاوية على عروشها
في رمضان عام أربعة وتسعين من القرن الماضي كانت سراييفو مازالت محاصرة، محرومة من الماء والكهرباء والتدفئة، لكنها باتت تصلي، مساجدها كلها مفتوحة، بل هي تشهد لأول مرة في حياتها غرفا تعد للصلاة في البنايات الحكومية، والغريب أن لا مكان لموضع قدم في صلوات التراويح، في البرد الشديد والظلام ونور الإيمان
كان الأب يمسك بيد طفله الصغير بقوة، يلتفت يمنة ويسرة ثم يعبر الشارع بحرص شديد، البرد قارس، والهلع باد على وجهه، رصاصات القناصة الصرب لا ترحم، تنفس الصعداء عندما وصل المسجد في الموعد الأسبوعي وانتظر حتى اطمأن لدخول ابنه الكتّاب، سمع صوت الأطفال يأتيه من الداخل، قليل من العربية وكثير من البهاء، توجه هو على الفور إلى حانة صغيرة ليحتسي مشروبا روحيا محليا، ريثما ينتهي ابنه من درس القرآن، ولما سئل رد بإجابة خاطئة، لا أمل فينا، ولكن الأمل في أبنائنا أن يكونوا مسلمين صالحين
مكثت طويلا حتى فهمت هؤلاء، المظهر لا يعكس ما في القلب، يمر عليهم الغزاة والطغاة والإسلام راسخ في النفوس، متملك للقلوب، البعض يمارسه عبادات يومية، والبعض يدرسه ثقافة وفكرا، والبعض يعرف منه الفاتحة ورمضان والبيرم، والكل يعتقد أنه مكون أساسي في شخصيته
بعد الاحتلال النمساوي المجري للبلاد عام ثمانية وسبعين من القرن التاسع عشر، خرجت البوسنة من دولة الخلافة، لكنها لم تخرج من الإسلام بل تجذر فيها، وإن حمل خصوصية دعت البعض لأن يسميه الإسلام البوسنوي، وهي تسمية تغضب العلماء الذين يرون أن الإسلام واحد، لكن في الحقيقة المسلمون مختلفون
في زمن يوغسلافيا كانوا يوصفون بأنهم أكثر شعوبها تسامحا، ربما لأن أكبر نسبة زواج مختلط في جمهوريات يوغسلافيا الفيدرالية كانت هنا في البوسنة والهرسك، تلك التي خرج منها علي عزت بيغوفيتش رئيسا وزعيما ومتهما بالأصولية الإسلامية ومعاقبا بالسجن، وهو الذي عبر في كتابه الشهير "الإسلام بين الشرق والغرب" عن احترامه الشديد للمسيحية باعتبارها "شبه اتحاد ببين السمو الديني والسمو الأخلاقي" ، وعبر عن تقديره للفلسفة والثقافة الأنغلوساكسونية وللتقاليد الاجتماعية الديموقراطية في الغرب
هي البوسنة إذن بخصوصية فريدة، بساطة في تدين متجذر في النفوس، وتسامح مع الآخر حتى بعد تجربة الحرب المريرة، يقول الدكتور أنس كاريتش عميد كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو في كتابه دراسات في تاريخ الفكر الإسلامي في البوسنة والهرسك إنّ التفكير في الإسلام أو الفكر الإسلامي لم يعد ينحصر في العلماء الذين كانوا يحتكرون فهم الإسلام وتفسيره بل أصبح لدينا الآن نتيجة للتغيرات السياسية والثقافية كُتَّابٌ ومثقفون، مؤرخون وباحثون، ينخرطون ويؤلفون عن الإسلام ويفسرونه بالاعتماد على مصادر تكوينهم العلمي والثقافي
جلست أرتعد في البرد الشديد خارج المسجد المزدحم، خطيب الجمعة يعظ الناس عن أخلاق المسلمين حتى في زمن الحرب، لكنني للأسف سرحت منه إلى زمن آخر، وصل فيه الإسلام إلى البلاد حتى قبل فتحها عام ثلاثة وستين من القرن الخامس عشر، سرحت في "عهد نامه" الذي يتعهد فيه الفاتحون بالحفاظ على مقدسات المسيحيين وحرية تأدية الشعائر الدينية، سرحت في المدارس الإسلامية والتكايا والمكتبات، في هذه الكوكبة من العلماء المسلمين الذين شهدتهم البلاد
أنهى الإمام خطبته لكنه بدأ في قراءة بيان موجه من المشيخة الإسلامية إلى جمهور المسلمين، ما يفعله أشقاؤنا القادمون من العالم الإسلامي نثمنه ونقدره، لكننا مسلمون أحناف لا نغير مذهبنا، كان البيان ردا على بعض الجهود الشيعية، ودليلا ليس فقط على التمسك بالإسلام ولكن حتى بالمذهب
يوما قررت والحرب في أوجها أن أزور معسكرا للمجاهدين البوسنيين، كان قريبا من معسكر آخر للمجاهدين العرب، لكنه منفصل عنه تماما، كانوا بمثابة قوات إسلامية خاصة ضمن الجيش البوسنوي الذي كان في طور التكوين، اقتربت سيارتنا من المعسكر، نساء يقفن عند البوابة يودعن أقاربهن ورفاقهن، أما في الداخل فإن الشباب يجلسون في مجموعات صغيرة، بعض المجاهدين يتسلون بلعب الكوتشينة، والبعض الآخر يستمعون للموسيقى ويدندنون معها، الحقائب والأسلحة الخفيفة هنا وهناك
أذن للصلاة، يتركون ما بأياديهم، يتجمعون في الساحة الكبيرة، يتيممون، يلفون على رؤسهم عصبة مكتوبا عليها لا إله إلا الله ، أقرأها وكأني أقرأها للمرة الأولى في حياتي، أردد نعم لا إله إلا الله، يقيمون الصلاة، يختمونها، يتمازحون، يتصافحون بحرارة، ينطلقون في مجموعات إلى الجبهة، يستعدون لأن يحمل بعضهم صفة شهيد.
نسيت أن أحكي لكم عندما وصلت عند مدخل المعسكر سألت عن قائده، غاب الجندي المكلف بالحراسة عند البوابة ثم عاد ليخبرني أن أمير الكتيبة يستأذنك أن تنتظره لبعض الوقت، فهو في راحته، يلعب البلياردو!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.