فلتنكسر القيود، ولنعانق السماء!

آمنت أن الحق رغم سطو القوة عليه فضيلة، وأن جماهيرك العريضة تقع في محيط الوهم لديك، وأن الذي يعبأ لأمرك -إن سقطت- أرقام محدودة من البشر، آمنت أنك قد تملك كُل شيء.. الجمال، الصحة، الحب والمال وسعة الرزق ولكنك لا تملك أي شيء دون الرضا به، آمنت أني مجرد ترس صغير في آلة الحياة مهما بلغت ضخامة أحلامه

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/10 الساعة 07:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/10 الساعة 07:37 بتوقيت غرينتش

ولأن الإنسان لا يتحمل الألم إلا من خلال إيمانه بشيء ما يتجاوز ذاته الضيقة، اخترتُ أن أتألم لكني لن أنكسر..

من واقع أوطان علمتنا أن البقاء للأقوى، وأن الألم فريضة، وأن"السلام" مجرد كلمة عابرة قد تجدها في مطلّع قصيدة أو ديوان، أو ربما مُقدمة كتاب لمؤلف بائس يسعى أن يتجاوز بيعة الطبعة العاشرة في مجتمع يعاني من فقدان كُلي للوعي، وعداء لكل من يحاول انتشاله من تلك الحالة، تعلمت الفشل في كُل شيء..

لكني برغم كل شيء آمنت!، آمنت أن الحق رغم سطو القوة عليه فضيلة، وأن جماهيرك العريضة تقع في محيط الوهم لديك، وأن الذي يعبأ لأمرك -إن سقطت- أرقام محدودة من البشر، آمنت أنك قد تملك كُل شيء.. الجمال، الصحة، الحب والمال وسعة الرزق ولكنك لا تملك أي شيء دون الرضا به، آمنت أني مجرد ترس صغير في آلة الحياة مهما بلغت ضخامة أحلامه، وأن التغيير الحقيقي في كل ما حولي لن يحدث جملة واحدة، آمنت أن الثورة كانت حلماً رائعاً استحقه من مات لأجله، وأن الفئة الأكبر ليست بحاجة لمجهودات الإعلام لتضليلها فهم مسروقون ذهنياً في دوامة العمر والعيش، ذلك المسكين الفقير لا يعبأ بمصطلحات ولغة ذاك المثقف صاحب البذلة الأنيقة الرائعة، لا يفهم ما تعنيه الديموقراطية والبيروقراطية، لكنة يعبأ بشدة بما قد يؤمن له رغيف عيش لحظة جوع واحتياج، آمنت أن العدل والإنصاف وكل تلك المعاني السامية رائعة لأصحابها فقط ومن دون ذلك لن يفهم ما تعنية بالأساس، آمنت أن الفناء الحقيقي هو الفناء المعنوي، حين ينتهي بك الأمر بحالة من الفراغ الروحي، واللا شعور وأنت مازلت في مقتبل العشرين من العمر..

لذا لم يولد الإيمان داخلي إلا من خلال رحلة عقلية طويلة، فإيماني تأملي عقلي، لم تدخل عليه عناصر روحية، إيمان يستند إلى إحساس بعجز المقولات المادية عن تفسير حقيقة هذا العالم، وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية..
ربما هذا النتيجة كانت الأقرب لإرضاء ذاتي خلال هذا الفيلم القصير الذي يسمى (الحياة)، والذي يكشف لنا مساحات غير محدودة من التأمل طيلة الوقت..

أتعلم تلك المسافة التي تفصل بين الروح والجسد؟

هي نفس المسافة التي تفصل انعكاسات الألم المتكررة بين كل حدث يحمل في طياته حقيقه مؤلمة، كم أنت بارع في إخفاء ألمك!
كم أنت قوي لذاك الحد الذي يجعلني لا أرى صدى ألم الروح على وجهك مهما بلغ ذروته ومهما ثارت روحك وثقُلت نفسك بزحام الفكر في سجن ذلك الحيز الضيق من صدرك..

اعتدت أن أرتب كل شيء إلا أفكاري.. هي التي ترتبني فتبعثرني وتجعلني أبصُر القلوب حافية، وحيناً تروضني فتجعلني ذلك المُنصت الشارد الشريد -ظل الجلسة- الذي يكتفي بقول كلمه "تمام" حتى لو لم يتفق مع طيات الحديث.

رُبما هذه "التمام" لكي أنتهي من جلسه مُملة، أو ربما لأخلُص من نقاش قد لا ينتهي، وربما نفسي تكابر الحديث في أمر يمس شيئاً قد لا تُجيد كلماتي احتواءه مهما بلغتُ من عبقرية النظم وفلسفة المعاني ورقي المشاعر..

ولأننا جميعاً ندرك معنى الألم مهما اختلفت درجاته ومهما تقمّص أدواراً أو أحداثاً خضناها، كانت خاطرتي اليوم..

" فلتنكسر كل القيود.. ولنعانق السماء"

هي عباره أعتاد كتابتها كلما ضاقت علّي الأرض بما رحبت، فتسعُها دفاتري مهما ثقُلت، وفي كل مرة تكون كأول مرة!

هي عباره أرددها كلما شردت في أحياء الوطن فأبصر فيها تلك المرأة العجوز التي تبحث عن طعام في نفايات الحي، أو ذلك الرجل الغريب صاحب القبعة السمراء الذي يطربنا بتلك الآلة الحزينة كل ليلة، أو تلك الطفلة التي تستوقفني كل يوم ترجوني أن آخذ منها منديلاً أو أعطيها ما تبقى من قوت يومي، أو تلك النشرة الدموية اليومية التي تنقل لي تعاسة تلك البؤرة السوداء التي أنتمي اليها من ضمن كل هذا العالم..

فأتذكر مفردات الكلمات ومضاداتها.. قل لي لم خُلق الحب؟ لمَ لم نكتف بباقي المشاعر؟
لم العاطفة التي قد تؤذينا لهذا الحد عند التجول في أوطاننا! العيب فينا أم بالوطن؟

لم خُلق الثراء.. لِمَ لمْ نكتف بيُسر الحال والرزق الواسع فحسب، ولم خُلقت العبقرية والسعي لمنازل العلماء.. لمَ لمْ نكتف بما يرفع الجهالة عن كل امرىء منا.. لم خُلق الاجتهاد ولم نكتف بالتقليد.. لم خلقت الزعامة ولم نكتف بولاية من يولوننا؟

كلها أسئلة تصدرها ضوضاء نفسي كلما خلوت بها، فألجأ لتلك الحيلة الماكرة حيث أذكّر نفسي بجدولها اليومي الضيق المُزدحم وكيف أني أشد الناس تقصيراَ في كُل شيء..

وتأخذني الدقائق كالسنين إلى أن أصل لصوت يسألني
إن كنا جميعاً نمتلك نفس العقل لمَ هناك الناجح ولمَ هناك التعس سيء الحظ؟

فأتذكر أنني تطرقت مراراً في عدد من عبث الكتابات لنفس النقطة كان آخرها:

" فلتقصص من حكاياتك ما تقصص، فمهما بلغت من الدقة أنت بالكاد لا ترى سوى أنصاف الحقائق، والحق عناصر وموازنات ومسعى نسلكه وليس غرضاً نحتكره"
"المسافة مُفيدة للرؤية.. والمواقف تتحدد بألوانها لا بالإنصاف، وأعلم جيداً قليل من يكمل قراءة ما تكتبه أصلاً، والغالبية لا تفكر قبل النقد.. العين ترى ما تريد"

ثم أعود لتلك الفكرة مرة أخرى، من قال أننا جميعاَ نمتلك نفس العقل؟
أو حتى نفّكر بنفس الطريقة.. نعم قد نتشابه ولكن لكل منا جانب عقلي لا يظهره كل منا للآخر!

كبشر نحن نرى العالم من خلال مساحة ضيقة ومحدودة من بؤرة النظر وهامشه، لكن أعيننا لا تستطيع رؤية المشهد الذي أمامنا بكل تفاصيله، فنجده إذا أردنا أن نركز بصرنا على جزئية انشغلنا عن أخرى، لذا قديماً كانوا يقولون "عين على عين…ورأي على رأي" إشارة للحاجة للآخرين ولتعدد الرؤى على نفس المفاهيم فالحقيقة أنه لا أحد يدرك الواقع أو يصل للحقيقة وحده.

فبالرغم من أن المفاهيم تعد أدوات الفهم للواقع، فالعقل يستقبل الصور ويدرك الأحداث ويتفهمّها، لكنه يرتبها بناء على المفاهيم الكامنة فيه والتي تعينه على إعادة ترتيب الواقع والوقائع بما يمنحها المعنى والدلالة.

لذا كانت المفاهيم هي الخيط الناظم والأداة الرابطة لشتات المشاهدات وتنوع العلاقات والأحداث التي نمر بها وتبقى الحقيقة الكاملة خلف حُجب وحجُب من البصر التي قد تُدركها أحياناَ عين البصيرة..

ذكرتني بخاطرة صديقة، دائما ما كان يجمعنا الحديث حول "سوء الظن " وكيف أن البعض يصدر أحكاماً دون حجج أو بحجج لا أدري بالأساس لمَ قد يمتلك أحدنا ذلك الحق الذي يجعله يصدر أحكاماً أو يتبنى رأياً في نفس بشرية تعادله في نفس الحقوق ونفس حرمة الروح وشغفها بالعمر ومنهجها بالحياة.
ولكن إن كنا نختلف في فهمنا للمفاهيم واستقبالنا لكل ما هو جديد، لم قد نختلف في ثقافة راسخة لها منهج وحجة ودليل، وهنا أتطرق لبعض الحديث الفلسفي الممل وأترك ذلك الحديث الروحاني الذي يمس الروح ولا عزاء للقارئ..

مثلا مفهوم "الدين" كان في أصله رسالة تحرير للإنسان ثم صار يقترن بالطاعة العمياء واستقالة العقل واتباع السلطة- الدينية أو التوظيفات السياسية، واختلط الحابل بالنابل وتنازع مفهوم الدين أطراف متعددة من الأنظمة الباطشة التي لم تشم رائحة "دستور المدينة" ولا تفقه شيئاً في النموذج الحضاري الإسلامي، للجماعات المعارضة التي تريد تأسيس إسلام الأعراب ولا تعرف عن إسلام محمد إلا القليل، إلى الجماهير التي تريد إسلاما بلا ثمن، إسلاما يزين الحيطان ويخلق مساحات للتواصل الفردي، لكنه لا يمنح الطاقة لحركات تغيير تريد للناس كرامتها وحريتها وتنهض بالعالم.. ويدفع به الناس ثمن التغيير في معركة التقاليد وفي مواجهة الهيمنة.
مفهوم التدين، الذي صار مختزلا في الطقوس وغاب عنه الوعي بالدور التاريخي وبالبعد الثوري في الإسلام في العلاقات الاجتماعية وتوزيع الثروة.

تنتابني حالة من اليأس العابث بالأمل.. إذا كنا نختلف في قواعد منهجية ونحن على نفس الملة والطائفة كيف لنا أن نحظى بمتعة مواكبة عصر العالم..

بالنهاية، ما توصلت له.. في أوطاننا العربية، حيث القوة تغلب الحق، تختلط عليك الطرق ويملأ الضباب عينيك وتحتار فيما يجب أن تفعله، كل ما تملكه، أن تركز مجهودك في أن تعطي الأمة "واحد صحيح" حينها تكون قد ساهمت بشكل مباشر.
مهما يكن دورك في الصراع الدائر حالياً، مهما يكن حجم عدم الوضوح والحيرة، مهما كان حجم اليأس والتخبط لا تجعل ذلك كله يشغلك عن دورك الحقيقي "بناء نفسك"، أزمتنا ليست في قيادة ضعيفة وحسب وإنما في صف أضعف كذلك..

عندما تتمثل الأزمة في تصعيد لفظي لا يحمل وراءه مضموناً عملياً لتحقيقه أو تصريحاً استسلامياً لا ينطوي داخله على رؤية لاستثماره فتأكد أن ذلك لن يُغير من حقيقة كونك مهزوماً وستبقى مهزوماً.
إن الذي يتاجر بأحلامك ليس بأقل سوءاً من الذي يُضيع تضحياتك، وإن الذي يُصر على تعميتك ليس أقل جرماً من الذي يُصر على أن ترى واقعاً غير واقعك، وفي النهاية عليك أن تُدرك أن وعيك وإدراكك ومن ثم حركتك هي الانطلاقة الأولى لانتصارك.
لم يعد غيرك… ليس من أحد سواك!

لا أعلم لمَ قد أكتب كل هذا وكلي يقين أن كلماتي -ان قُرأت- أضعف من أن تحرك ساكناً، ولا أعلم لمَ قد أخلو بنفسي تلك التي قد تطرح عليّ أسئلة ليس لي عليها من سلطان ولا جاه، لكن ما أدركه هو أنني تلك الروح الأسيرة في ذلك الجسد والتي قد تحظى بميدالية كلمة "تمام تمام تمام"..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد