عرف المهاجمون المكان الوحيد الذي سيجازف محمد غسان العلبي بزيارته حتى لو كلفه الأمر حياته، وهو قبر قريبه الذي كان مقرباً إليه جداً.
نادراً ما غادر محمد وإخوته أزقةَ دمشق القديمة بعد أن تبنت "جبهة النصرة" المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، قتل قريبهم إيهاب في صيف عام 2012، وأقسمت أيضاً على قتلهم جميعاً، بحسب تقرير نشرته صحيفة "فورين بوليسي".
التهمة الموجهة لأفراد عائلة العلبي هي "خيانة الطائفة"، فهم من السنّة ولكنهم رفضوا الانضمام إلى الثورة، وعوضاً عن ذلك، كانوا يعملون حراسة في حيّ موالٍ للرئيس السوري بشار الأسد.
ومنذ مقتل إيهاب في عملية إطلاق نار من سيارة عابرة، نادراً ما ظهرت عائلة العلبي، ما عدا الزيارات الأسبوعية لقبره في مقبرة "باب الصغير"، جنوب جدران مدينة دمشق القديمة.
في يوم الهجوم، 8 مارس/آذار 2013، كان محمد وأخواه قد بدأوا للتو بقراءة سورة الفاتحة حين انفجرت قنبلة عند شاهدة القبر. سقط محمد على القبر عندما انفجرت قنبلة أخرى بعدها مباشرة.
ويعتقد أخواه أنه مات من فوره، إذ امتص جسده كل قوة الانفجار الثاني الأمر الذي أنقذهما من موت محتم.
تنتمي عائلة العلبي إلى تلك الفئة من الناس التي يطلق عليها "حزب الكنبة"؛ أي السنة المحايدون الذين لم ينضموا إلى الثورة ولكن النظام أيضاً لا يثق فيهم تماماً.
إنها تلك الشريحة التي وجدت نفسها بين شقي الرحى: المتشددون والنظام الذي يتعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية.
عائلة العلبي لا تعتبر نفسها مدافعة عن نظام الأسد بقدر ما تسعى للحفاظ على الحي الذي تقطنه والطريقة الدمشقية في الحياة: مجتمعٌ يرحب بالآخرين؛ العلمانيين والملحدين أو معتنقي الديانات الأخرى.
لكن المتشددين من مقاتلي المعارضة المسلحة، يعتبرون العائلة "خونة دينهم"، إذ حملوا السلاح للدفاع عن النظام الذي ينتمي للطائفة "العلوية".
أسعد (40 عاماً)، شقيق محمد، الذي يرعى الآن أطفال أخيه ويتزعم وحدة حرس تعمل خارج منزله: "لم نزعج أحداً أبداً، نحن فقط نحمي حارتنا".
لكن رغم وضعهم الذي يُرثى له، إلا أن الأسر السنية التي يشبه حالها حال عائلة العلبي، قد تكون مفاتيح الحل في سوريا المستقبلية.
تجار السنة الأغنياء
شكّل السنة حوالي ثلاثة أرباع السكان قبل الحرب، ولا يزال اقتصاد البلاد يتمحور حول مجموعة من التجار السنة الأغنياء.
فالصناعيون السنة في حلب، القاعدة الصناعية الأهم في البلاد، لم يغلقوا مصانعهم رغم الحرب المحمومة على المدينة المقسّمة بين المعارضة والنظام، بينما بدأ رجال الأعمال السنة النازحون إلى الساحل السوري بإنشاء أعمال جديدة، وهو ما خلق فرص عمل لنازحين سوريين آخرين في المنطقة.
ورغم أن بعض رجال الأعمال السنة أيدوا الثورة ودعموها، إلا أن آخرين من الصناعيين السنة الأثرياء ما زالوا يشكلون أعمدة النظام الاقتصادية.
وإن حشد هؤلاء جهودهم، فيمكنهم أن يرجحوا كفة الحرب، وحتى بعد الحرب، ستكون أموالهم ضرورية كقاعدة لأية كتلة في أية حكومة جديدة.
الرتب العسكرية الصغيرة
شكّل السنّة غالبيةَ الجنود ذوي الرتب العسكرية الصغيرة في الخدمة الإلزامية بسوريا، مقارنة بتعدادهم في البلاد، وذلك بحسب محلل يقوم بدراسة حول القوات المسلحة السورية.
وحتى اليوم، تُظهر مقاطع الفيديو التي يبثها الثوار لأسرى قوات النظام أن السنة دائماً موجودون في صفوف هذه القوات.
ويقول آرون لوند، محرر مدونة "سورية في أزمة" التابعة لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، إن الحكومة لا تزال تعتمد على السنة لتعويض النقص في صفوفها: "يوجد سنة سوريون يقاتلون على الجبهة بجانب قوات الأسد حتى اليوم، رغم أن العديد منهم يفعلون ذلك من أجل الراتب فقط.
كان النظام يفقد أنصاره من السنة بين عامي 2011-2013، لكن يبدو أنه ثمة استقرار بدرجة معينة في أعداد أولئك الأنصار الآن".
ويضيف لوند أن النظام كان دائماً يكسب المناصرين من مختلف الطوائف، وكانت قواه الأمنية تزخر بالمؤيدين من كل الديانات والعشائر الكبرى.
بعد موجة الانشقاقات في المراحل المبكرة من الحرب الأهلية، بقي غالبية السنة يمارسون أدوارهم الرئيسية، بما في ذلك وزير الدفاع.
لكن الحضور المستمر للسنة ذوي الرتب العالية في الجيش لم تكن فقط عملية تجميل يقوم بها النظام.
يقول لوند "تاريخياً، لم يكن التمثيل الزائد للعلويين ملموساً، وكان ثمة ميلٌ ما لوضع السنة في المناصب العامة البارزة، كوزير الدفاع ووزير الداخلية، بينما بقيت الدولة الأمنية العميقة وغير المرئية بيد العلويين في الأغلب".
النظام أم داعش
ربما بسبب الخوف أو غياب البديل، بقي هؤلاء السنة إلي جانب النظام. لكنهم الآن شريحة من المواطنين يتم اصطيادها. العديد منهم ممن يعيشون في دمشق التي تخضع لسيطرة الحكومة يعانون من معضلة صعبة: إذ يخاطرون بحياتهم ويقاتلون للحيلولة دون وصول من يعتبرونهم المتشددين وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) إلى الأحياء التي يقطنونها، لكن النظام الذي يدافعون عنه بالمحصلة يعتبرهم طابوراً خامساً محتملاً، فـ"ولاؤهم" دائماً محل شك.
يقول أحد السنة العلمانيين "يعرفني الجميع هنا في دمشق القديمة، وبوسعي القول أن 70% منهم يثقون بي. خارج الحي، أنا فقط مجرد سني". كل أفراد عائلة هذا الرجل ترفض مغادرة دمشق القديمة خوفاً من الاعتقال العشوائي على أحد حواجز النظام. يضيف الرجل "لا مستقبل لنا تحت حكم هذا النظام، لكن إن أتت داعش، سيكون الوضع أسوأ".
مضت عائلة العلبي خطوةً أبعد من السنة الآخرين في حيهم، العديد منهم لم يناصر الثورة. حين تعرضت دمشق لهجوم كبير في عام 2012 واخترقت قوات المعارضة قلب العاصمة دمشق، حملت عائلة العلبي السلاح ونظمت مجموعة لحراسة الحي.
سرعان ما بدأ الناس بإرسال تهديدات للعائلة. سمّيت عائلة العلبي بالشبيحة، وهو اللقب الذي يطلق على الميليشيات المؤيدة للنظام.
في عام 2012، قتلوا إيهاب، في الربيع التالي، أي بعدها بحوالي سنة، تلقت أم محمد اتصالاً مفاده "لقد جهزنا لك هدية خاصة لعيد الأم"، وفي الثامن من مارس/آذار، بعد الاتصال بأسبوع فقط، قُتل ابنها.
منذ سنتين ونصف، يستمر أعضاء العائلة الباقون بتسيير دورياتٍ في الحي. ثم تحولت حراسة الحي إلى قوات الدفاع الوطني، وهي شبكة من المليشيات المحلية التي تعمل في مناطق تواجدها، تمولها جزئياً وتدربها إيران.
عالقون في الحي
لا يغادر أفراد العائلة دمشقَ القديمة: إنهم ملتزمون بحماية حيّهم، لكنهم لا يحاربون بجانب الحكومة على الجبهات الأخرى، وهم يقولون إن "جبهة النصرة" تتبع حركاتهم، إذ هكذا استطاعت الجبهة أن تتبعهم إلى المقبرة حيث وقع الهجوم، وهكذا يستمرون في تلقي التهديدات.
يقول أحمد العلبي عن "جبهة النصرة": لا نستطيع مناقشة هؤلاء الناس. سيقتلوننا مباشرةً. أسماؤنا منتشرة في كل مكان. نحن لسنا خائفين على حياتنا، بل خائفون على أطفالنا.
إنهم حذرون لدى الإشارة إلى الرئيس السوري، لكنهم يقولون أن دافعهم محدودٌ بمصلحة حيّهم أكثر منها بأجندة النظام.
يعملون في مهنهم الخاصة طوال النهار، وفي الليل، يعملون مع ميليشيات الدفاع الوطني. تملك العائلة مصنعاً في ضاحية "المليحة" ينتج القدور والأدوات المنزلية المعدنية الأخرى، ومنذ بدء القتال حول العاصمة، أصبح من الصعب جداً على الإخوة الوصول إلى المصنع، لذا يعملون الآن على نطاق أصغر بكثير في محيط منزلهم في دمشق القديمة، منتجين كميات محدودة من القدور وأباريق الشاي.
بشكل عام، يقضي أسعد، الأخ الأكبر في العائلة، بعد ظهيرة أيام عطل نهاية الأسبوع وهو يلعب ألعاب الفيديو على هاتفه الجوال، مدخناً في عتمة مكتبه المنزلي، منتظراً انتهاء انقطاع التيار الكهربائي. أفراد العائلة الكبرى المكونة من 23 شخصاً محشورون في شقة صغيرة، إذ منذ أولى سنوات الحرب، لم يعودوا قادرين على العودة إلى منازلهم في الضواحي المتنازع عليها المحيطة بالعاصمة، لكنهم يأملون أنهم سيعودون يوماً إلى منازلهم الفسيحة خارج المدينة.
تتكون الغرفة الرئيسية من مطبخ فيه مساحة واسعة فارغة تنام فيها العائلة. على اليمين، يوجد مكتب الميليشيا المحلية، ثمة سبع رشاشات AK-47 معلقة عالياً بحيث لا تصلها أيدي الصغار. ثمة أيضاً صورة لإيهاب ومحمد، بالإضافة لصورة الرئيس السابق حافظ الأسد، لكن لا صورة لابنه بشار. يوجد جهاز لاسلكي متطور على مكتب الابن الأكبر، بجانبه أربع أراجيل لتمضية ساعات الحراسة الليلية الطويلة.
يقول أحمد "العديدون جُرحوا في هذه الحرب، بطريقة أو بأخرى"، رافعاً قميصه ليكشف النُّدب التي خلفتها شظيةٌ على صدره، أصيب بها خلال الهجوم على المقبرة. يؤمن أحمد أن الراحة تأتي من الله فقط.
الهجرة أم البقاء
هاجرت إحدى أخواتهم إلى فرنسا قبل اندلاع الحرب. وتجادل الأخوة حول الانضمام إليها، لكنهم يكرهون فكرة ترك منازلهم ليصبحوا لاجئين في بلاد بعيدة. يقول أحمد البالغ من العمر 29 عاماً بكآبة "لا يوجد مستقبل لأطفالنا هنا. إنهم السبب الوحيد الذي يجعلنا نفكر في الرحيل. الحياة صعبة، نحن كثيرون جداً والمعيشة باهظة".
دخل ابن محمد البالغ من العمر خمسة أعوام وجلس في حضن عمه. سحب الأسد مشطاً من جانب اللاسلكي والبندقية وبدأ بتسريح شعر الصبي.
سأله: "أين أبوك؟"
أجاب ابن أخيه بنعومة باسماً: "لقد قُتل".
"من قتله؟".
"الجيش الحر"، قال الصبي، خالطاً بين جماعة الثوار الوطنيين التي تُدعى الجيش الحر والإسلاميين الجهاديين التابعين لـ"جبهة النصرة" والذين تبنوا قتلَ والده.
"إين هو الآن؟".
"في الفردوس".
"اذهب لتلعب الآن"، قال عمه، تاركاً الصبي ينزلق من حضنه.
محمد مدفون الآن مع قريبه في نفس المقبرة التي قُتل فيها في "باب الصغير"، داخل دمشق القديمة المختنقة أحياناً، إذ بالرغم من وجود نوعٍ من التعايش المشترك، إلا أن الحرب عمَّقت الهويات الطائفية داخلها.
يتوجب على الإخوة في عائلة العلبي أن يتسللوا إلى المقبرة لزيارة موتاهم، دون أن يخبروا أحداً بوجهتهم.
يضيق عالمهم أكثر كل يوم، حيث الخوف والشك هما الشعوران الأكثر ديمومةً في حياتهم، يقول أسعد، رب العائلة المتعب "كل يوم نغادر منازلنا، لا نعرف ما إذا كنا سنموت على الطريق أو لا نعود أبداً".