كان العرب القدماء يقولون: سمي الإنسان إنسانا لأنه ينسى، لكن هذه المقولة لا تنطبق على العرب لا في ماضيهم ولا في حاضرهم، وإذا كان الأوربيون قد تناسوا جراحات ماضيهم، فالعرب لا ينسونها، وإنما تظل محفورة في الذاكرة، لتفجــر في كل مرة خزان الحقد الجنوني الذي يحمله العرب لبعضهم البعض، وهم لا يفرقون في ذلك بين عظام الأمور و أتفهها، فهم الذين ظلوا يحاربون بعضهم البعض لعشرات السنين بسبب ناقة، وهم الذين تقاتلوا ولا يزالون يتقاتلون على دم الحسين منذ انقلاب معاوية على الاتفاق الذي وقعه مع الصحابي علي بن أبي طالب.
يبدو الاتحاد الأوربي رائدا، كتكتل إقليمي ناجح إلى حد بعيد، لكن الذي قـــد نغفلـــه هو أن هذا التكتل قد تشكل على أنقــــاض عداوات تاريخية لا حصر لها بين شعوبه، بلغت ذروتها إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعلى سبيل المثال، فالعداء بين الفرنسيين والبريطانيين ليس بالشيء الخفي، وفي هذا الإطار ألّـــف ستيفن كلارك كتابا أسماه "ألف سنة في إغاظة الفرنسيين" ، حاول من خلاله رصد مظاهر العداء التاريخي بين الشعبين، والذي ما يزال صداه يتردد في التراشق الإعلامي من حين لآخر.
المدهش هو أن العقل الأوروبي قد تطور بالقدر الذي جعله يُــبقي هذه الرواسب التاريخية بعيدة عن إنجاح فكرة تشكيل تكتل إقليمي ناجح على كل المستويات. رغم أنك قد ترى مثلا الصحافة الفرنسية تتهكم بسخريتها المعهودة من الملكة البريطانية، نظرا لتاريخ الفرنسيين الدموي مع الملكية؛ وقد ترى الإنجليز ينالون من الثورة الفرنسية كلما حلت ذكراها. يجري هذا كله، بينما الحياة تسير، وركب التطور يتقدم، ونفس الأمر يحصل بين الألمان والفرنسيين. بإمكاننا القول أن العقل الأوربي قد نجح في تحويل العداء إلى تنافس يخدم تقدم ورفاه الشعوب الأوروبية في النهاية، وتفوق في إنجاح تكتل يضم 28 بلــــداً.
وبالرجوع إلى العرب، ماذا عسانا نقول؟ وأي قاموس سنستعمل لنصف واقع العرب في التشظي والتناحر والكيد لبعضهم البعض؟ لكن دعونا نبتعد قليلا عن منطقة الشرق الأوسط باعتبارها بؤرة للتوتر، علما أن الأخير ظل يُتخـــذ كشماعة، يُعلَّــــق عليها فشـــل كل التجارب التي رامت تشكيل تكتلات وحدوية عربية، كمحاولة توحيد مصر وسورية، التي تهاوت في وقت وجيز. ودعونا ننظر إلى الشطر العربي الممتد على شمال أفريقيا، لكي نتساءل بعفوية: لماذا فشلت هاته الدول في تحقيق حد أدنى من التعاون؟ خاصة وأن فكرة تكوين إطار اتحادي في هذه المنطقة ظهرت قبل الاستقلال، وتبلورت في أول مؤتمر للأحزاب المغاربية، عُقـــد في مدينة طنجة سنة 1958، وضم ممثلين عن حزب الاستقلال المغربي والحزب الدستوري التونسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
وبعيد الاستقلال كانت هناك محاولات لتنزيل فكرة الوحدة والتعاون على أرض الواقع، ومنها مثلا إنشاء اللجنة الاستشارية للمغرب العربي سنة 1964، لتمتين الروابط الاقتصادية بين دول المغرب العربي، وبيان جربة الوحدوي بين ليبيا وتونس سنة 1974، ومعاهدة مستغانم بين ليبيا والجزائر، ومعاهدة الإخاء والوفاق بين ثلاث دول مغاربية هي الجزائر وتونس وموريتانيا سنة 1983. ليتم الإعلان أخيرا عن قيام ما سمي باتحاد المغرب العربي في 17/2/1989، بمدينة مراكش من قبل خمس دول هي: المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.
الكثير من الناس لا يعرفون وجود منظمة من هذا القبيل، لأنها ليست سوى منظمة وهمية ومغيبة، ولم تلعب أيا من الأدوار التي أنشئت من أجلها، ولعل أبرز دليل على هذا الاخفاق المدوي هو وجود شبه قطيعة بين بلدين رئيسيين في الاتحاد، والحدود بينهما مغلقة، هما المغرب والجزائر؛ كما أننا لم نسمع أن دول الاتحاد المغاربي قد أبرمت اتفاقية أو فاوضت جهات أجنبية باعتبارها كتلة سياسية وجغرافية موحدة، كما يصنع الاتحاد الأوربي، بل تتصرف هذه الدول فرادى حتى في القضايا المشتركة.
إن حكام المنطقة المغاربية يتصرفون بمزاجية منقطعة النظير، وسبب هذه المزاجية ليس سوى غياب الديموقراطية والمحاسبة، ما يجعلهم يدوسون على أحلام شعوبهم في أي وقت، ولعل هذا ما جعل اتحاد المغرب العربي يتعثر مبكرا. فالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان متحمسا للاتحاد، استـــاء من عدم مساندة باقي الدول المغاربية لمواجهة الحصار الدولي الذي فُرض على دولته، بسبب ما عُرف بقضية لوكربي. فارتأى أن أفريقيا السوداء أقرب إليه من العرب ومن دول المغرب العربي، ومن ثم سعى إلى التقارب مع أفريقيا السوداء. ولا نحتاج إلى التذكير في هذا الصدد بالعلاقة المتأزمة بين المغرب والجزائر منذ حرب الرمال التي اشتعلت في غفلة عن التاريخ بين البلدين سنة 1963، ومنذ ذلك الحين توالت المشاكل والأزمات، خاصة بعد ظهور جبهة البوليزاريو التي تعادي الوحدة الترابية للمغرب. ليستمر البلدان في الكيد لبعضهما البعض، معطلين بذلك أي وحدة ممكنة، بل نراهما مصرين على التباعد في تحالفاتهما وانشغالاتهما الإقليمية والدولية، وما الملاسنات الحادة الأخيرة بين ممثليْ المغرب والجزائر في مقر الأمم المتحدة، إلا دليل على رغبة البلدين القوية في قطع شعرة معاوية، إن كانت لم تقطع بعد.
هكذا يفشل العرب في تحقيق أي إنجاز عربي مشترك، وينجحون في ضرب بعضهم البعض، في حين نجحت بلدان أخرى في تجاوز خلافات الماضي لبناء مستقبل مزدهر، رغم أن هذا الماضي كان فظيعاً و خلف جروحا غائرة في ذاكرة الشعوب كما هو الحال في أوربا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.