صاحت أختي الصغيرة: "خلص قوم وفوق الطيارة هتفوتك". انتبهت فإذا بها الثالثة صباحاً. نهضت.. توضأت.. صليت في عجالة. حزمت أمتعتي. خرجت فإذا بأمي في انتظار وداعي. نظرت إليها مبتسماً: "على رسلك ما هي إلا بضع أسابيع".
ابتسمت وقالت: "أسابيع أو أيام مش متعودين على غيابك". قلت لها باستحياء: "الأيام هتجري يا حاجة وهتلاقيني أدامك"، في محاولة مني أن أصبرها.
نظراتها تقتلني، عينيها تخبئ شيئاً.. تؤكد على أن أعود في الوقت والموعد.. ويا ليتني كنت أعلم.. فبصيرة الأم لا تخطأ، لكنها أخفت ولم تفصح. قررت أن أنهي ذلك المشهد المأسوي فاستودعتها الله وهممت بأن أرحل.. ولم أكن أدرك أن بعض الأمنيات ليست من حقي… بل هي للقدر وحسب.
مرت الأيام بسهولة ويسر، هاتفت أمي: "مش قلت ليكي الأيام هتعدي بسرعة"، قالت لي: "ربنا يسهل ويعدي الأسبوع اللي فاضل على خير".
مر الأسبوع.. بل أسابيع… لا لا شهور.. بل عامين.. ولا زالت أمي تنتظر عودتي.. نعم تلك هي الحقيقة.
ففي الثالث من يوليو استيقظت مصر على انقلاب قاتل، قتلني، نعم قتلني مع ملايين من شباب مثلي عاشوا حلماً تحول لكابوس على أيادي العسكر، لم أصدق، ظننت أن من نزل في يناير لن يمررها مرور الكرام.. استبشرت.. مذبحة المنصة.. سينتفض الشعب.. الحرس.. الفض.. نهاية العسكر.. تلفيق قضايا.. قتل.. اعتقال.. تصفية.. مطاردات.. شعب نائم.. لا بل غارق، أدركت حينها أن الأسابيع ستطول ربما لسنين.
نعم أنا بالخارج، أعيش في أمان، ولم يعلموا أني ما أنا إلا سجين حر أعيش في عالم ليس بعالمي، جيراني ليست تلك الوجوه الصافية التي ألفتها، أصحابي في السجون والقبور ….مسجد الحي أغلق …منطقتي باتت كقطعة مظلمة، من كان يضيئها بين شهيد أو معتقل أو مطارد. …حتى أحلامي لم تعد …
ولم يؤلمني ما حدث، بقدر ما آلمني أني وعدتها!
فلو كنت أعلم.. لاختلف وداعي.
ولو كنت أعلم.. لأطلت في صلاتي.
ولو كنت أعلم… لسقيت الورود التي ربما تكون ذبلت لأن صاحبها لم يعد ليسقيها.
لو كنت أعلم… لما سافرت.
ولا يحضرني إلا قول محمود درويش:
أماه يا أماه
لمن كتبت هذه الأوراق
أي بريد ذاهب يحملها؟
سدّت طريق البر والبحار والآفاق
وأنت يا أماه
ووالدي، وإخوتي، والأهل، والرفاق
لعلّكم أحياء
لعلّكم أموات
لعلّكم مثلي بلا عنوان
ما قيمة الإنسان
بلا وطن؟
مهاجرا أتى هنا… ولم يعد إلى الوطن
سلام على أمي.. سلام على الشهداء.. سلام عليك يا وطني.. فقريباً اللقاء
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.