يعطي المؤرخون لكل عصر صفة من واقع ذلك العصر، فنجدهم يطلقون صفة الظلام على القرون الوسطى التي بدأت من القرن السادس عشر، كما يصفون القرن الثامن عشر بعصر التنوير.
فيما يبدو أن التاريخ يأخذ صفته من سلوك أفراده وخياراتهم وتفكيرهم، وبالتالي يمكننا أن نقترح اسماً مناسباً لأي عصر بدراسة القيم الفكرية والأخلاقية لأفراده.
بالنسبة للظلام والتنوير فلا فائدة تُرجى من تطبيق الفكرة على تاريخنا العربي لأن مصطلح التنوير مازال يشكل عدواً ميتافيزيقياً غير مرحب به حالياً على الأقل.
لابد أن المتشائم منكم شعر بالإحباط إذ لن تفوته الملاحظة أن الظلام استمر ثلاثة قرون تقريباً، والمتفائل سيظل يبحث عن إسقاطات في واقعه تطمئنه بأنه يعيش الآن في عصر التنوير ويشارك بصنع هذا التاريخ الملحمي، وعلى أية حال نحن لن نعلم على وجه التأكيد من منهم أكثر فهماً لواقع الحال لكننا نستطيع التفكير فيما سيكتبه التاريخ عن هذا العصر.
لو قسمنا التاريخ العربي لمراحل زمنية فالاسم المناسب لهذه المرحلة هو "عصر البجاحة".
فالبجاحة هي الصفة الأشد وضوحاً في عالمنا العربي على مستوى الفرد أو الدول. ومما يدعو للثقة بدقة هذا الوصف أنه وبقليل من التمعن سنكتشف أنّ أغلب الأمم التي تعاصر العرب اليوم تتصف به أيضاً، لكنه لا يظهر بوضوح إلا عندما تتعامل تلك الأمم مع قضايا العرب.
لقد فهم الغرب الطريقة المجدية للتعامل مع الحكومات والقضايا العربية انطلاقاً من فهمهم للطريقة التي تتعامل بها تلك الحكومات مع شعوبها وقضاياها.
إنّ الطغيان الذي تعاني منه الأمة العربية اليوم ليس بأمر مستغرب في تاريخ الأمم، فالأمة قد عاصرت طغياناً يشبهه من قبل وتجاوزته وصنعت من بعده تاريخاً له ما له وعليه ما عليه، لكن لم يسبق في أي حقبة تاريخية للعرب أن قُلبت الموازين كما يحدث الآن، لقد كان لدى الأشرار في الماضي قليل من الحياء ساعدهم على ممارسة شرورهم والظهور بمظهر أخلاقي مقبول.
لكن الذي يحدث الآن أن التهذيب غائب تماماً عن أشرار عصر البجاحة، ربما لم يخبرهم أحد أن للشر "اتيكيت" وضع قواعده كبيرهم الذي علمهم الشر، أو أنهم تجاهلوا موضوع التهذيب حين اكتشفوا أن الشعوب العربية لا تبدي اهتماما فعليا به .
كل جانب في هذا العصر موصوم بالبجاحة، وحيثما توجهت ستقرأ وتشاهد تصريحات ومواقف سترغمك على التساؤل إن كان ما تشهده حقيقيا أو مبالغة على سبيل السخرية .
فعلى سبيل المثال ستجد حكومة عربية تضرب شعبها بالقنابل تستنكر على حكومة أخرى استخدام الغاز المسيل للدموع لتفريق مظاهرة وتدعوها لضبط النفس، وجيوشا تدعي بأنها درع لحماية إرادة الشعب ثم تُبرئ الطغاة وتحكم بإعدام من انتخبه الشعب، وشعوباً تقبل بالحكم الملكي تنتقد شعوبا تقبل بالتزوير في الانتخابات.
وهنا حدثت الكارثة التاريخية، حين اتفق الجميع ضمنا على التعامل بمبدأ "لا تعايرني ولا أعايرك الهم طايلني وطايلك".
أصبحت البجاحة سياسة معتمدة من الجميع حكومات أو أفراداً. وكأي سنة إلهية دفع الله الناس بعضهم ببعض، فظن الحالمون أنهم يستطيعون مقاومة هذا السيل المندفع، وفي كل مدينة وقرية وشارع من الوطن العربي ستجد هؤلاء الحالمين يفضحون الأوغاد ويجادلونهم بالتي هي أبجح، بيد أن الجدال وحده لا يكفي، والتاريخ لا يكتبه الحالمون، لذلك ظل سباق البجاحة المحموم مسيطراً على الكثير من المواقف الحكومية والشعبية لدى العرب حتى قرر هؤلاء الحالمين الانضمام مرغمين إلى ركب البلداء الذين لا يعنيهم التاريخ أو الأمة بشيء. فعلوها مرغمين إذ لا خيار آخر متاح، فعلوها مرغمين حين اكتشفوا أن الإنسان إذا أراد الحياة بسعادة في العالم العربي فلابد له أن يكون سافلاً لا يرحم أو بليداً لا يفهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.