أمل دنقل… قصيدة لم تنته بعد

ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع إلى طبيعة الصوت الذي يصدر من بين حروفها، فهو صوت المواطن العربي البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، ويصمت كي ينال فضيلة الأمان

عربي بوست
تم النشر: 2015/10/22 الساعة 04:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/10/22 الساعة 04:41 بتوقيت غرينتش

ليلة ال21 من مايو العام 83 هي ليلة بكت فيها الكلمات برحيل ناسجها المبدع أمل دنقل, وبكاه الليل وأناس كثيرون في الوطن العربي و ليس في مصر فقط, لأنة مبدع من القلائل الذين بزغ فجر إبداعهم فى سماء الوطن العربي
هو من اكتشف كهفاً جديدا فى الشعر واستطاع أن يحفر في الجبل كي يكمل طريق الكهف حتى يرى النور ولذلك تجد الكثير من الشعراء المعاصرين, الحاليين وحتى الجدد يخرجون من رحم كهف أشعار أمل دنقل.
هو الذي لم يخف يوما, هو الذي وقف بمنتهى القوة أمام كل ظالم فهو من قال لا في وجه من قال نعم بلا خوف وهو الذى جعل أجيالاً تكرر وراءه كلماته وقصائده, وهو من تنبأ بالحال العربي وبالثورات وتنبأ أكثر بالخيبات
إن أحاسيس العروبة والوطنية هي التي امتلكت قلبه وشعره
و لنتذكر قصيدته الشهيرة التى كتبت بعد هزيمة 67 "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" فقال
أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه.. في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!
أسأل يا زرقاء ..

هذه قصيدة تدين الانظمة التي أوقعت الهزيمة بشعوبها، ودالة على أن الهزيمة تتخلق في الداخل قبل أن تأتي كالعاصفة الجامحة من الخارج، ودالة على أن الشعوب المحكومة لا تملك سوى البكاء عندما تشعر بهوان وضعها، ولكن هو كتب من الزاوية التي تجعل من بكائها تمردا على كل من تسببوا في هزيمتها.

والواقع أن قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) أهم قصائد أمل بعد هزيمة العام السابع والستين وأعادت إلى الأذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الحكمة الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام السابع والستين فلم يسمع أحد إلا بعد أن حدثت الكارثة. وإذ أكدت القصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية للشاعر من حيث وصل الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى إمكانا للمستقبل إلا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات، وتتجاوز ما في الحاضر من ثغرات.

ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع إلى طبيعة الصوت الذي يصدر من بين حروفها، فهو صوت المواطن العربي البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، ويصمت كي ينال فضيلة الأمان، كأنه عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة وطعامه كسرة خبز والماء وبعض التمرات اليابسة. وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه إلى (زرقاء اليمامة) التي هي هو بمعنى من المعاني، كي ينفجر في حضرتها بالكلمات والشكوى..
و سأترك لك صديقي القارئ أن تكمل هذه القصيدة الرائعة التي بها وصف وجلد دنقل الوطن العربي.
واستمر دنقل يتنقل ما بين اشعاره, كلماته وتمرده إلى أن جاءت معاهدة السلام التي رفضها كل الرفض ووقف بلا خوف فى وجه نظام كامل وصرخ بقصيدته الرائعة (لا) حيث قال
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
هذا هو ابن الصعيد الذى تعلم الكرامة والكبرياء وعدم الخوف أو الانحناء. وقف أمام الجبابرة بلا خوف
و هذا الذي علمه هو لأجيال من خلال قصائده لذلك وجدنا في ثورة ال25 من يناير في ميدان الحرية وقف الشباب غير خائفين مرددين كلمات دنقل ولكني فى ذلك الموقف تخيلت دنقل وهو واقف على مسرح التحرير ما بين حشود الشباب الثائر أمام جيوش من الشرطة الباطشة وهو واقف شامخ يشدو قصيدته الخالدة (سفر الخروج) حيث قال
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة.
و إذا بي أرى الميدان يتحول إلى جوقة مكررة كلمات القصيدة على أنغام السماء غير مهتمة بالرجال المدججين بالسلاح حولهم بل وضعوا وطنهم أمام عيونهم فلذلك انتصرت ثورة الشباب.
ورغم ثورة دنقل ورفضه للظلم وطلبة للحرية الدائمة لم يغفل الحب وقصائد المشاعر وهو الذى قال
كن لي كما أهوى
أمطر علي الدفء والحلوى
وقال أيضا
"و ينزل المطر
و يرحل المطر
و ينزل المطر
و يرحل المطر
و القلب يا حبيبي
مازال… ينتظر"

كان عابر سبيل ما بين الكلمات ناسجاً رائعاً للحروف ,كان مسافراً ما بين العصور ولكنة وقع أسير التراث العربي و الفلسفة العربية والتاريخ هو من أجاد قراءة الماضى وأجاد فنون الحاضر حتى أنه استطاع ببراعة أن يتنبأ بالمستقبل
و جاءت قصيدته كلمات إسبارتاكوس الأخيرة لتكون خير تتويج لمسيرة فكرية لشاعر فذ عاش يوما بيننا
حيث إنه فى تلك القصيدة دعا إلى عدم الاستسلام عدم الانحناء للخطأ، دعا إلى أن نقف بلا خجل ونقول للجبار لا في وجه من قال نعم بلا خوف أو تردد لأن مستقبل الوطن لا يحتاج إلى رجال خائفين بل يحتاج إلى رجال لا يخافون لومة لائم.
و هنا دعا بلا خوف الوطن العربى أن ينظر إلى من لم يحن رأسه يوما، إلى من ناضل من أجل وطنه فهو لم يحن رأسه إلا للموت فحيث قال
معلق أنا على مشانق الصباح
وجبهتي بالموت.. محنية
لأنني لم أحنها حية!…
وأرسل رسالة إلى الثائرين فى ربوع العالم على جناح قصيدته حيث قال
"لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد
وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى
و دمعة سدى"

أمل دنقل قصيدة لم تكتمل بعد, قصيدة لا تمل من قراءتها، بل تذوب ما بين كلماتها، تعشق رائحتها تتمنى فقط أن تقتنيها
أمل دنقل قصة لن و لم تنته, أمل دنقل ترك السنين والأناس أن يكملوا ديوانه و قصته
فأنهي كلامي بكلماته قائلا
"فاشهد لنا يا قلم
أننا لن ننمْ
أننا لن نقف بين "لا" و "نعم "

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد