لم ترد السلطوية الجديدة في مصر أن تعقد الانتخابات التشريعية قبل أن يكتمل تفريغ العملية الانتخابية والمؤسسة البرلمانية من الجوهر الديمقراطي الذي يحارب بضراوة منذ صيف 2013.
نحن أمام حاكم فرد لا يساءل ولا يحاسب، ومكون أمني يعصف بسيادة القانون ويسطو على الحقوق والحريات، وسياسة أميتت ويدعي الحديث باسمها مجموعات من خدمة السلطان والمكارثيين وأتباع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والقادرين على التبرير الدائم للقمع والمظالم والانتهاكات، ومجتمع مدني محاصر بقوانين وإجراءات تقضي على حرية التنظيم والتجمع والتعبير الحر عن الرأي والعمل الأهلي، ومجال عام يسيطر عليه ضجيج السلطوية وصخبها المزيف للوعي تارة باسم "البطل المخلص" وثانية باسم "الحرب على الإرهاب" وثالثة باسم "مواجهة المؤامرات والمتآمرين" ورابعة باسم "الرأي الواحد والصوت الواحد" وخامسة باسم "مقتضيات إنقاذ الوطن والهوية الوطنية" ويطرد منه العقل والعدل والتسامح، ومواطن يهجر من المجال العام بفعل قوانين وممارسات قمعية ويباعد بينه وبين الاهتمام المستقل بالشأن العام إن بسبب التهديد الدائم بإعمال القمع وإنزال العقاب حال عدم الامتثال لإرادة الحكم أو بسبب سطوة الخوف التي تلغي في الأذهان خبرات المقاومة المجتمعية الناجحة للسلطوية وطلب التغيير الديمقراطي والتي كانت ثورة يناير 2011 عنوانها العريض.
والنتيجة المباشرة لذلك هي احتكار الحاكم الفرد ومعه النخب العسكرية والأمنية الداعمة له وأيضا النخب البيروقراطية (أصحاب الثروة والنفوذ داخل المؤسسات والأجهزة الرسمية) والاقتصادية والمالية للقرار العام في ظل استبعاد المشاركة الشعبية الحرة ومصادرة حق المواطن في الاختيار الحر إن في المواسم الانتخابية أو فيما وراءها.
نحن أمام تدخلات ممنهجة للأجهزة الأمنية والاستخباراتية في تفاصيل موسم الانتخابات البرلمانية، وأمام قوانين لتنظيم العملية الانتخابية تنحاز لقوائم الأجهزة وللمرشحين الفرديين المدعومين منها أو من أصحاب المال السياسي وتضمن في جميع الأحوال تشكل برلمان مشوه هويته الوحيدة هي مناصرة رأس السلطة التنفيذية (أحاديث "الظهير السياسي" لرأس السلطة التنفيذية) وتغيب أجندته التشريعية والرقابية الجادة، وأمام تنوع ظاهري في اليافطات الحزبية والقناعات السياسية لمرشحي القوائم والمرشحين الفرديين الذين يجمعهم إما الاصطفاف مع الخروج على الديمقراطية في صيف 2013 وتأييد العصف بالحقوق والحريات والترويج لحكم الفرد أو الامتناع عن مواجهة السلطوية الجديدة والسعي إلى التعايش مع حكم الفرد وإسقاط مطالب سيادة القانون وتداول السلطة والعدالة الانتقالية من حساباتهم وفقا لثنائية "الاستتباع للحكم نظير الحماية والعوائد" – ولا يغير أبدا من استعلاء المرشحين على الفكرة الديمقراطية ولا من انقلابهم على جوهرها كونهم يكثرون من التوظيف الخطابي والاستدعاء اللفظي لبعض مفرداتها مثل الحق والحرية والمدنية والليبرالية والشفافية.
والنتيجة المباشرة لذلك هي موسم انتخابي تسيطر عليه ذات الوجوه وذات المصالح التي بررت للمظالم والانتهاكات منذ صيف 2013 وتماهت مع مقولات "مرشح الضرورة" و"رئيس الضرورة" المتهافتة وساقت التفسيرات الواهية للقوانين والتعديلات القانونية السلطوية التي تم تمريرها خلال العامين الماضيين (فقانون التظاهر يتشابه مع قوانين التظاهر في البلدان الديمقراطية وقانون الكيانات الإرهابية يمثل ضرورة وطنية)، بينما يختفي التنافس السياسي حول خطط تشريعية وأفكار وبرامج رقابية والمفترض حضورها في انتخابات برلمانية "طبيعية" وينزع عن المواطن عملا الحق في الاختيار الانتخابي الحر بين مرشحين مختلفين – الجميع في حديث الظهير السياسي وفي إقرار حكم الفرد سواء.
نحن أمام مظالم وانتهاكات للحقوق والحريات تتراكم يوميا، ولا يحد من قسوتها عفو رئاسي هنا وإفراج جنائي هناك، ولا يقلل من وطأتها على قطاعات شعبية واسعة معسول حديث السلطة التنفيذية هنا وصلف وإنكار رسمي للظلم هناك.
والنتيجة المباشرة لذلك هي عزوف انتخابي متوقع للقطاعات الطلابية والشبابية ولفعاليات عمالية ونقابية عديدة ولمن يدركون أن السلطوية الجديدة نزعت الجوهر الديمقراطي عن العملية الانتخابية وأن الدفع بإمكانية الإحياء الديمقراطي داخل المؤسسة البرلمانية هو درب من دروب الخيال. النتيجة المباشرة لذلك هي أن الناخب الحر سيقاطع الانتخابات، ولن تجد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من معدلات الإقبال الشعبي على المشاركة الانتخابية ما يجنبها "عناء" المد الزمني للاقتراع والعبث بنسب المشاركة المعلنة.
نشر في الشروق المصرية، 16/10/2015
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.