منذ لحظة ميلادها في صيف 2013، والسلطوية الجديدة في مصر تعمل على تجريد المجال العام من العقل كما جردته من القيم الأخلاقية والإنسانية.
عادت السلطوية الجديدة العقل حين مكنت طيور الظلام والمكارثيين من تزييف وعي الناس وتضليلهم لكي يعتبروا الخروج على الإجراءات الديمقراطية والتورط في قتل ومظالم وانتهاكات غير مسبوقة فعلا "بطوليا" بامتياز هدفه إنقاذ الوطن. ثم كان أن صار تزييف الوعي غرسا لحالة من الهيستيريا الجماعية تقبل الظلم والقمع والعقاب الجماعي وتقف بلا مبالاة إزاء مشاهدهم الصارخة.
عادت العقل حين استدعت "رموز" النخب التي تصف نفسها بالمدنية، وبعد أن انقلب هؤلاء على شعارات الديمقراطية والحقوق والحريات التي ادعوا طويلا الالتزام بها، لكي يتولوا هم مهام الترويج لإماتة السياسة ولعسكرة الحكم إن تحت يافطات "التفويض الشعبي" أو عبر مقولات "مرشح الضرورة" التي أوغلت في الانقلاب على حق الناس في ممارسة حرية الاختيار أو من خلال المشاركة في حملة "البطل المنقذ" للاستئثار بالمنصب الرئاسي الذي جيرت من أجله كافة طاقات المؤسسات الرسمية وأسهمت به المصالح الخاصة للنخب الاقتصادية والمالية المعادية دوما للديمقراطية.
عادت العقل حين استخدمت سياسات "الأذرع الإعلامية" ووظفت الإفك والأكاذيب والشائعات لإطلاق حملات التخوين والتشويه الممنهجة ضد المتمسكين بالعدل والحق والحرية، ولتمرير عصفها بسيادة القانون وقضائها على ضمانات العدالة والتقاضي العادل وصياغتها لمجموعة من القوانين والتعديلات القانونية الاستثنائية هي الأسوأ منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ولإنزال العقاب بمساحات المقاومة المتوقعة للسلطوية إن في الجامعات التي عادت إليها القبضة الأمنية أو في المدارس التي تفتح أبوابها لرعاة ودعاة الأمن الفكري أو إزاء المنظمات الحقوقية وكيانات المجتمع المدني المستقلة التي فرض عليها الحصار والتضييق والتهديد الدائم بالقمع والتعقب والقيود.
عادت العقل حين زينت لها أوهام الاستعلاء على المواطن والاستخفاف بمقتضيات نشر المعلومات والحقائق، تلك الأوهام التي لا تفارق السلطوية أبدا وبغض النظر عن زمان ومكان سطوتها على الشعوب، العودة إلى ممارسات بالية وشديدة التهافت هدفها نشر الرأي الواحد والصوت الواحد المتماهيين مع إرادة "البطل المنقذ" وحشد الناس لتأييده والامتناع عن مساءلته ومحاسبته، وهدفها أيضا تجديد دماء ثقافة الخوف من الفكر الحر والراي الحر والتغريد بعيدا عن أسراب طيور الظلام وطلب التغيير لإنهاء الظلم والمظالم لكي يقضى على بدائل حكم الفرد وتبتذل الإمكانيات الفعلية للخروج من مأزق العسكرة إن بالإحالة إلى أحاديث "المؤامرات والمتآمرين" العبثية أو إلى قراءة قاصرة للأوضاع المأساوية في الجوار الإقليمي (سوريا والعراق وليبيا، وسؤال "ألسنا أفضل حالا؟" الخاطئ) والتي تساءل عنها السلطوية قبل التدخل الخارجي وقبل إجرام عصابات الإرهاب.
عادت العقل حين سمحت لوطنية شوفينية أن تلغي قيمة العلم في ترويجها "للاختراعات العلمية المدهشة وللإنجازات الكبرى"، أن تصنف الجوار العربي لمصر إلى عرب مانحين نسترضيهم وعرب فقراء لا حاجة لنا إليهم ولا داعي لتضامننا معهم، أن تقارب الغرب بثنائية مريضة جوهرها الخضوع والدونية من جهة وممارسات الاستعلاء اللفظي من جهة أخرى، أن تهلل لخطاب رسمي منزوع المعنى عن إصلاح ديني تديره الدولة ومؤسسات الأخيرة لم تتدخل في شأن الدين إلا وأفسدته وأفسدها.
لكل ذلك، لا تتعجبوا من عبثية المشهد "الانتخابي" القادم، ولا من المصادرة على الدور التشريعي والرقابي المستقل للبرلمان قبل أن ينتخب بحديث "التأييد الدائم والظهير السياسي المضمون"، ولا من الهزل المبكي الذي يروجه الإعلام الحكومي والخاص ومازال بعض هواة استمراء تزييف الوعي أو تعذيب الذات بيننا يصرون على متابعته.
سينتصر العقل حتما.
نشر في الشروق المصرية، 14/10/2015.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.