وهي تنحت مساحات مجتمعية بديلة لمواجهة السلطوية بجدية، ولتخليص الناس من الوعي الزائف الذي يحاصرهم في حياتهم الخاصة ومجالهم العام، وللدفاع عن حقوق وحريات المواطن على نحو يحفز قطاعات شعبية متزايدة للتحرك من مواقع تأييد المظالم والانتهاكات / الصمت عليها / تجاهلها إلى خانات التضامن مع الضحايا / رفض الظلم / المطالبة بالعدل؛ يتعين على المنتسبين إلى الحركة الديمقراطية المصرية الالتفات الفوري إلى حضور اختلالات خطيرة ترد على أدوارها وأفعالها الراهنة كما تطول رؤيتها للمواطن وللمجتمع وللدولة الوطنية ومقولاتها المركزية يشأن الترابطات الإيجابية بين سيادة القانون وتداول السلطة والتنمية والتقدم، وتستدعي في الحالات جميعا البحث في سبل تجاوزها والامتناع عن التذرع بقسوة الهجمة السلطوية – وهي قاسية ولا شك – لتمرير تراكم الاختلالات هذه كقدر محتوم لا فكاك منه.
أولا، لجهة الدور والفعل في المجال العام، لا تخطئ العين الانزلاق التدريجي للحركة الديمقراطية إلى استهلاك وجودها المحدود في وسائل الإعلام التقليدية وساحات النقاش العلني المرتبطة بها ووجودها الواسع على شبكات التواصل الاجتماعي إما في التعبير المتكرر عن الأسى والحزن وملامسة تخوم الإحباط واليأس أو في السخرية من العبث الذي تطلقه السلطوية على الناس ومن الوعي الزائف الذي يروج له خدمة السلطان أو في هجاء الحكم ونخب تبرير وتمويل الاستبداد المتحالفة معه في ممارسة تتشابه سطحيتها مع سطحية مكارثية الرأي الواحد والموقف الواحد.
أدرك جيدا عفوية هذا الانزلاق – وما أبرئ نفسي، وأنا من المتورطين بين الحين والآخر في التعبير عن الأسى والحزن، غير أن استنزاف الطاقات البشرية والقدرات التنظيمية للحركة الديمقراطية (بكل ما يرد عليهما اليوم من قيود) على هذا النحو يخل باضطلاعها بأدوارها الثلاثة الأساسية في المجال العام؛ 1) توثيق وكشف القمع والمظالم وانتهاكات الحقوق والحريات وتوعية الناس بتراكمها المطرد ومطالبتهم بالتضامن مع الدعوة إلى إيقافها ومحاسبة المؤسسات والأجهزة الرسمية المتورطة فيها وجبر الضرر عن كل الضحايا دون معايير مزدوجة – مهما بدا ذلك أملا بعيد المنال، 2) ممارسة النقد الذاتي بشأن مسارات الحركة الديمقراطية المصرية خلال السنوات القليلة الماضية وتقييم مجمل أفعالها، ومن ثم الطرح المنظم لأفكار تستهدف تقريب أجندة الحقوق والحريات وسيادة القانون والمقاومة السلمية للسلطوية الجديدة مرة أخرى من الناس والانفتاح على قطاعات شعبية إما لم تتشابك معها الحركة الديمقراطية بقوة كالحركات العمالية والنقابية المستقلة والحركات الطلابية أو لم تتواصل معها أبدا بجدية كأصحاب رؤوس الأموال والمشروعات الصغيرة والمتوسطة في القطاع الخاص والمجموعات الشابة ومتوسطة العمر بين الموظفين والمهنيين والحرفيين وغيرهم، 3) تجديد دماء الحركة الديمقراطية المصرية بالعمل على تجاوز الشكوك المتبادلة الكثيرة التي تراكمت بين مكوناتها خلال السنوات القليلة الماضية، إن عبر حوارات الرأي والرأي الآخر أو عبر الإنصات إلى القراءات المختلفة "للحقيقة" وإلى رواياتها المتنازعة أو عبر صناعة التوافق بشأن القواسم المشتركة التي ستحمل بمضامين صورة مصر المواطن والمجتمع والدولة الوطنية التي تسعى الحركة الديمقراطية إلى إحلالها محل السلطوية الحاكمة.
ثانيا، لجهة الرؤية والمقولات المركزية، يفصح عن ذاته عجز الحركة الديمقراطية المصرية عن حسم موقفها من القضية الاجتماعية ومن مسألة العلاقة مع الدولة الوطنية، وكذلك عجزها عن الترجمة الإجرائية (الدستورية والقانونية والسياسية – وإن كانت الأخيرة في وضعية موات اليوم) لمبادئها المتعلقة بالفصل بين قضايا الحكم والسلطة وبين المؤسسات العسكرية والأمنية (المؤسسات النظامية في المجمل) وبين قضايا الحكم والسلطة وبين توظيف الدين إن من قبل فاعلين حكوميين او غير حكوميين.
خلال السنوات القليلة الماضية، اختزلت الحركة الديمقراطية القضية الاجتماعية في مقولات فضفاضة عن العدالة الاجتماعية أنتجها اليسار الديمقراطي وأسهم بها أحيانا بعض المنتسبين إلى الفكرة الليبرالية، ولم تقدم أبدا إجابات واضحة على السؤال الأساسي المرتبط بتنظيم علاقات أضلاع المثلث الاقتصادي الاجتماعي؛ المواطن صاحب الملكية الخاصة والمبادرة الفردية، والسوق الحر المستند إلى المنافسة، والدولة التي يمكن لها الاكتفاء بتنظيم تفاعلات المواطن والسوق وحماية الحرية والتنافسية دون تدخل في النشاط الاقتصادي ودون مواجهة للاختلالات الاجتماعية (الثروة والدخل والظروف المعيشية ومستويات الخدمات والضمانات الأساسية وفرص الترقي) أو تستطيع المزج بين الدور التنظيمي والحمائي وبين دور اقتصادي وإنتاجي مباشر.
لا تملك الحركة الديمقراطية اليوم، وهي تبحث عن فرص مجتمعية للمقاومة السلمية للسلطوية الجديدة وتحاول الانفتاح على قطاعات شعبية مؤثرة، ترف الصمت على القضية الاجتماعية التي يوظفها الحكم في سياقات متنوعة بشعبوية صارخة (من المشروعات الكبرى إلى إجراءات مكافحة الفساد)، ولم يعد في إمكان من تبقى من يسارها ومن ليبرالييها في مواقع بعيدة عن التحالف مع السلطوية وعن التعامل بمعايير مزدوجة مع مظالم وانتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك المكونات الأخرى المحتملة / المعطلة المتمثلة في الحركات العمالية والنقابية المستقلة وفي الحركات الشبابية والطلابية سوى الشروع الفوري في حوار حول تحديد صريح للمنطلقات والأولويات بشأن القضية الاجتماعية وسبل إخراج مصر من وضعية اللاتنمية الراهنة ومن التناقضات الحادة بين الحظوظ من الثروة والدخل والضمانات – انحيازي الشخصي هو لاقتصار دور الدولة / دور اليد العامة على تنظيم تفاعلات المواطن والسوق وحماية الحرية والتنافسية وإلزام السوق (عبر مواد دستورية وصياغات قانونية وتشريعات تجرم الاحتكار وسياسات تحفز البناء الوسيط في السوق وثيق الصلة دوما برؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة) بالبعد الاجتماعي، غير أن حصيلة حوار حر بين مكونات الحركة الديمقراطية المصرية ستذهب على الأرجح في اتجاه صياغة ديمقراطية اجتماعية ما.
أما فيما خص موقف الحركة الديمقراطية من الدولة الوطنية – وبالقطع بعيدا عن تهافت تشويه خدمة السلطان والمكارثيين للديمقراطيين بوصمهم زيفا بالعداء للدولة الوطنية التي دون وجودها وتماسكها تنعدم فرص البناء الديمقراطي، فلا مناص من الاعتراف بأن الأغلبية الساحقة بين المنتسبين لليسار الديمقراطي وللفكرة الليبرالية أيدت الخروج على الديمقراطية في صيف 2013، وساندت في أعقاب ذلك صياغات دستورية وقانونية صريحة الطابع السلطوي همشت كافة فرص الفصل بين قضايا الحكم والسلطة وبين أدوار المؤسسات العسكرية والأمنية وعصفت من ثم بهدف مدنية الدولة والسياسة – تماما كما ساوم آخرون بين صفوف اليسار والليبراليين على أولوية الفصل بين قضايا الحكم والسلطة وبين توظيف الدين حكوميا أو من قبل حركات مجتمعية وتنظيمات غير حكومية، وما لبثوا إلى اليوم يعبثون هنا أيضا بالطبيعة المدنية للدولة التي تدار وفقا لروايات خلاصية دينية الجذور ويصطفون خلف "إصلاح ديني" يقوده الحاكم الفرد والمؤسسات الرسمية – لا أن ينبع من المجتمع ويعطيه المجتمع المدني المستقل الجوهر والمضمون.
لا مناص من الاعتراف باختلالات الحركة الديمقراطية المصرية في هذا الصدد، والاجتهاد لتفكيكها وتجاوزها – ربما بإعادتها إلى تفاصيل التطور التاريخي للأفكار الديمقراطية بين اليسار والليبراليين والتي لم تبتعد سياقاتها أبدا عن الشك / الريبة / فقدان الثقة في الحركات والتيارات الموظفة للدين، وعن الخوف من المجتمع "المحافظ" الذي اتهم مسبقا بمعاداة المستنيرين من اليسار والليبراليين وبالانحياز إلى موظفي الدين، وعن الاستدعاء المتكرر للدولة ممثلة في مؤسساتها النظامية للتدخل في المجتمع وتوهم عزمها على حسم التدافع السياسي (بل، والاقتصادي والثقافي) لمصلحة اليسار والليبراليين وتمكينهم هم من الهيمنة على الحكم والسلطة – والحقيقة الوحيدة هي أن المؤسسات النظامية لا تمكن إلا ذواتها والمنتمين إليها وتهمش الآخرين جميعا، دون تمييز بين مدعي الاستنارة وبين الموصومين بالظلامية.
نشر في الشروق المصرية، بتاريخ 26/9/2015
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.