على بعد أمتار من ميدان التحرير بقلب العاصمة المصرية (القاهرة)، كانت تنتشر عشرات المقاهي في الشوارع، والأزقة الضيقة، أسفل العمارات والبنايات القديمة منذ عقود طويلة، احتضنت نشطاء وثوار 25 يناير طوال فترة الثورة وما تلاها من أحداث جسام.
إلا أن معظم تلك المقاهي أغلقت العام الماضي في أعقاب تولي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الحكم، بدعوى أنها ليست مرخصة، بحسب الرواية الرسمية، ولمنع الأحاديث السياسة، وفق بعض النشطاء السياسيين.
منعنا الحديث في السياسة
اقتربنا بحرص من أحد المقاهي بوسط البلد، وسألنا عن صاحبه، فأشار أحد العاملين إلى شاب في العقد الثالث من عمره، يدخن الشيشة، ويمسك باليد الأخرى هاتفه المحمول، يقلبه بين أصابعه، وبدأ ينظر إلينا بريبة، وتساءل مستنكراً "أنتم صحفيون؟"
وقبل سؤاله عن أي شيء، أكد لنا في لهجة حاسمة "منعت الحديث في السياسة على المقهى، لا أحد هنا يتحدث في السياسة"، وأشاح بوجهه ينفث دخان شيشته، وقال "لا أحد يريد المشاكل".
وقبل أن نسأل الشاب الذي يدعى آدم لماذا؟ أجابنا: "هذا مكان أكل عيش يا أستاذ، وهناك من أراد الجلوس منهم "في إشارة للنشطاء" ولكننا منعناهم، سيجلبون لنا "وجع الرأس".
لم نجد في المقهى سوى عدد من عابري السبيل، أو العاطلين، أو بعض الموظفين الذين اعتادوا الجلوس في فترات الاستراحة لتناول كوب من الشاي، أو فنجان قهوة".
اقتربنا من أحد الجالسين بعد الاستئذان من صاحب المقهى، وسألناه هل اعتدت الجلوس هنا؟ فأجاب أجلس باستمرار صيفاً شتاءً، وعند سؤاله هل تتحدث مع أصدقائك عن أوضاع البلد؟ اكفهر
وجه الرجل، وصرف نظره عنا إلى جريدته، وقال "لا.لا علاقة لنا بهذه الأمور، نتحدث في العمل فقط".
ومع ابتعادنا عن المكان، تلاشت أصوات حركة الملاعق في أكواب الشاي، كما خفتت صيحات عمال المقاهي التي كانت تتردد في جوانب الشوارع، واختفى ذلك الدخان الأبيض بعبق الفواكه الذي كان يخرج من أنواع الشيشة المختلفة.
المقاهي في زمن الثورة
مع ذلك، فكثير من النشطاء السياسيين، والمفكرين والشعراء يحتفظون بذكريات خاصة عن تلك المقاهي وما دار خلالها من أحاديث، وما شهدته من أحداث.
الشاعر والصحفي وأحد نشطاء ثورة 25 يناير، محمد طلبة، قال "مجموعة ما تسمى بمقاهي البورصة معروفة لجميع الناشطين في مصر"، وأضاف لـ"عربي بوست": "ولكن للأسف نظام السيسي أغلقها بالكامل".
وبسؤاله عن سبب إغلاقها، أجاب: "السبب القانوني المعلن أنه ليس لديها تراخيص، بالرغم من أنها تزاول نشاطها منذ سنين طويلة، ولكن السبب الحقيقي والمعروف هو غلق أي متنفس في تلك المساحة الضيقة، والتضييق على النشطاء".
وأكد أن تلك المقاهي إبان وعقب ثورة 25 يناير كانت "متنفساً للشباب، لم يكن هناك أي نوع من الاستقطاب السياسي"، مشدداً على أن "الناس كانوا يستغنون بإرادتهم الحرة عن كل ما يميزهم عن سواهم ليصبحوا صوتاً واحداً".
وبيًن أن "المقاهي قبل أن تغلق كانت ممتلئة بمجموعة مخبرين في كل مكان، وكان الجميع يتحدثون بصوت منخفض، لقد انخفض سقف الحريات في كل شبر في البلد".
الوضع الآن اختلف تماماً
بدوره، قال المتحدث باسم حركة 6 أبريل الجبهة الديمقراطية، شريف الروبي، أنهم كانوا يجلسون دائماً في مقهى "زهرة البستان" وسط البلد، وكان هذا المقهى وغيره بمثابة "حديقة مفتوحة
لجميع الثوار، والنشطاء يتحدثون لبعضهم البعض بكل أريحية".
وأضاف "مازلنا نجلس في نفس المقهى، ولكن الوضع الآن اختلف كثيراً، والدليل أن السلطات أغلقت مقاهي شارع البورصة وعلوي، وقهوة 8 إبريل بشارع جواد حسني، وحظرت على الناس الحديث في السياسة".
الروبي أشار إلى أن "طعم كل شيء تغيَّر في المقهى تماماً"، مضيفاً: "نشعر بنوع من القهر والظلم وعدم نجاح الثورة في مراحلها سواء ثورة 25 يناير أو موجة 30 يونيو التي سيطر عليها "العسكر".
شتان بين ما بعد 25 يناير و30 يونيو
أما عضو تكتل القوى الثورية، محمد عطية، فقال في نبرة يكسوها الأسى والتحسر: "ميدان التحرير ومقاهي التحرير في وسط البلد كانت علامة فارقة في حياتنا لن تنسى".
وقال: "من على تلك المقاهي تبلورت أفكار ثورتي 25 يناير و30 يوينو، ولكن الوضع الآن اختلف تماماً، وشتان بين ما بعد يناير وما بعد يونيو".
وأكد أن "توجهات الشباب اختلفت وانقسمت، وما يفرقهم أكثرُ ممّا يجمعهم، وأصبح الكثير من الأصدقاء لا يتحدثون في السياسة، البعض يفضل الصداقة دون سياسة".