منذ عدة عقود كثر الحديث عن علم اجتماع إسلامي يهدف الى توطين علم الاجتماع الذي وصف من قبل بعض الباحثين أنه غربي الهوى. وقد أخذ ذلك شكل الكتب والمقالات وأطروحات الدكتوراه بدأت تزدهر منذ بداية التسعينيات. وكانت هناك ردود أفعال جد سلبية من الكثير من الباحثين من الجماعة العلمية السوسيولوجية.
كباحث في علم الاجتماع ليس لدي حساسية من استخدام تعبير علم اجتماع إسلامي أو عربي أو لبناني أو جزائري، وأن يستوحي بعض مفاهيمه من التراث وأن تطبع وتلون نظرياته من وحي واقع المجتمعات. ولكن، لقد تبين لي من خلال تحليل مضمون الكثير من هذه الأدبيات (التي أخذت شكل كتب ومقالات وأطروحات الدكتوراه) ومقابلات مع بعض المنادين بها أن إضافة توصيف جغرافي أو ديني لعلم الاجتماع يطرح إشكاليات حقيقية.
هناك محاولات جديدة ولكنها نادرة لدراسة كل عناصر العلم الاجتماعي وتوطينه أو تبييئه محليا. وأنا أفضل استخدام مفهومي التوطين والتبيئة كونهما يشيران إلى منظومة قيمية أو ثقافية إسلامية ولكن أيضا الى عوامل حاسمة أخرى كالثقافة الوطنية والمحلية وطبيعة العمران في إدخال تلوينات على العلوم الاجتماعية وهذا أقرب إلى تخصصات يمكن تسميتها بعلم اجتماع في بلد عربي أو إسلامي منه أن يكون علم اجتماع إسلامي. وأعتبر عملية التوطين جدية في حال توفرت العناصر الأربعة التالية:
الاعتراف أن جزءاً كبيراً من العلم الاجتماعي (وخاصة جانبه الوضعي) يتطور بفضل التراكم المعرفي العالمي. وبالتالي لابد من الاستفادة من الأدبيات التي ينتجها البحث في العالم إن كان غربيا أو في مكان آخر.
كون أن العلوم الاجتماعية مطبعة بثقافة محلية، بما فيها الثقافة الإسلامية، فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار بدور هذه الثقافة في فهم الفاعلين الاجتماعيين لأي ظاهرة اجتماعية وهذا ما علمتنا إياه مدرسة البنائية الاجتماعية لبيتر بيرغر وتوماس لوكمان، أي أن أنظمة المعرفة ليست إلا تركيبات ذهنية حيث تساهم فيها مؤثرات وقيود كثيرة تفرضها القيم الدينية والأيديولوجيات السائدة في المجتمع وسياسة الحكم والخلقية التي يحملها أفراد يصنعون المعارف. فلا يكفي التوصيف الكيميائي للقات لاعتباره أحد أنواع المخدرات ولكن كيف يفهم اليمنيون القات باعتباره جزءاً من الطقوس الاجتماعية الضرورية للُحْمة الاجتماعية في اليمن.
لا تكتمل الدورة الكاملة للمعرفة (على الأقل تلك التي تهم المجتمع المحلي) إلا باحتكاكها بالجمهور المعني بها والجدل المجتمعي الناتج من استقبالها من الجمهور وبتحولها (أو تحول جزء منها) إلى سياسات لصانعي القرارات لتختبر في تطبيقها على الواقع. من هنا أهمية أن يقتبس الباحثون بزملائهم في نفس الحقل الثقافي أو المنطقة الجغرافية، حيث ستشكل جدلاً في المجال العام الذي هو جزء لا يتجزأ من عملية البحث الاجتماعي. ولعلي أرى في
-ينبغي على العلم الاجتماعي (أو جزء منه) التواصل مع العلوم الدينية (أصول الدين والفقه) من أجل إيجاد "فقه الواقع" أو فقه المقاصد وهما منهجان مفتاحيان لكل المدارس التجديدية الإسلامية في واقعنا المعاصر.
سأتناول هنا مثالين لهذه المحاولات الجادة:
المثال الأول في مجال الاقتصاد الإسلامي، هناك الكثير من البحث العلمي حول هذا المجال. وقد بدأ البحث بالتركيز على الجوانب المعيارية كالتنظير للوفاء بالاحتياجات من أجل الوصول الى الرفاهية (Wellbeing) بدلا تلبية الرغبات الغريزية، واستبدال الربا بالمرابحة، والتأكيد على التوازن بدل التحسين الأقصى (optimizing) الخ. ومن ثم قدمت دراسات وضعية على تحليل السلوك الاقتصادي، وإن قلت مقارنة بالكم الغزير للدراسات المعيارية. (Eğri and Kizilkaya 2015)
المثال الثاني، العمل الرائد الذي قامت به هدى محمد حسن هلال، والتي نشرت كتابا بعنوان نظرية الأهلية: دراسة تحليلية مقارنة بين الفقه وعلم النفس (2011). هلال هي خريجة الجامعة الإسلامية العالمية في كولا لامبور في الفقه وعلم أصول الفقه ويبدو أن لها دراية علمية ثاقبة في علم النفس. وأهمية هذا الكتاب تنبع في طرح الكثير من القضايا الشائكة المطروحة للبحث والنقاش، مثل أهلية المرأة للقضاء والحكم والشهادة في بعض القضايا، والتمييز بين البلوغ الفسيولوجي والرشد العقلي، وموضوع الاضطرابات النفسية والعقلية التي قد تسقط الأهلية بصفة دائمة أو مؤقتة. وقد غيرت الإشكالية من التمييز الفج والقاطع بين الرجل والمرأةـ الى تمييزيات مربوطة بموضوعة الرشد، بحيث يمكن للرجل كما للمرأة أن يتمتع بالأهلية أو يفقدها. وتدحض ما ذهب به البعض الى ان انتقاص أهلية المرأة لها علاقة بحيضها ونفاسها والتغيرات البيولوجية الأخرى. وتخلص الباحثة بأن هناك حاجة إلى نظرية معاصرة للأهلية واضحة المعالم تجمع بين الفقه وعلم النفس والعلوم المعاصرة، لإيجاد حلول للإشكاليات والخلافات القديمة والحديثة، والتي من أهمها: وجوب تفعيل مقاصد الشريعة في حقوق الجنين من خلال علم الأجنة وعلم النفس، من أجل تقرير حقوق إضافية للجنين على الحقوق المنصوص عليها سابقا.
في الخاتمة أريد أن أؤكد أن تحقيق التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، وغيرها من العلوم، وردم الهوة ومد الجسور بين هذه العلوم هو موضوع هام للغاية إن كنا معنيين لإعادة الشرعية للعلوم الاجتماعية لتلعب دورها الرائد في حل المشاكل العويصة اجتماعيا وسياسيا، وخلق تصورات ورؤى جديدة تفتح آفاقاً لاجتهادات كثيرة وعميقة، تثري الدين والعلم في مختلف المجالات. لقد وضع منظر أسلمة المعرفة إسماعيل الفاروقي في عام 1981 خطة العمل لمشروعه داعيا الجميع بالتمثل بأهدافه وها نحن بعد أي قبل ثلث قرن لم يسفر هذا المشروع عن نتائج ذات قيمة معرفية إلّا القليل، حيث نشأت مشاكل معرفية عن بعض مفاهيم أسلمة المعرفة. ولكن هذا لا يعني أنه لن تكون هناك قيمة في المستقبل. هناك بذرات طيبة ولكن في أرض مازالت مقفرة وهذه البذرات بحاجة الى رعاية وتشذيب وتهذيب قبل أن تأتي أكلها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع