لا ريب في أن حالة الاقتتال السياسي والمعنوي التي تشهدها مصر منذ أكثر من سنتين، والتصنيفات المقيتة التي يلقي بها كل طرف نقيضه و من يقف على بعد خطوان منه في ذات الجهة، كلما خالفه في رأي أو عارضه في طرح، هذه الحالة من الانحدار السريع التي ينفخ في كيرها إعلام يهدم ولا يبني، تنبئ بأن انفجارا هائلا في الانتظار.
هذه الحالة من الاحتقان والعراك السياسي والتي هي كفيلة وحدها بتعطيل مسيرة الدولة وتخلف الأمة المصرية التي بلغت فيما قبل ما بلغت، اجتمع معها انهيار مجتمعي وأخلاقي وثقافي، حتى شكلت معا حالة تتخطف المصريين يمينا وشمالا، تتوازى معها مساع خبيثة للقضاء على المواطن فيها عبر إفساد إنسانيته ومحو آدميته، حتى باتت مصر تتذيل باستحقاق قوائم التصنيفات الدولية في كافة مؤشرات الرقي والحداثة، وتتقدمها في توطن الأمراض والأوبئة والفقر.
ولايخفى على كل ذي بصيرة أن محاولات كهذه قطعت شوطا لا بأس به حتى الآن، فكم من مصريين فقدوا حياتهم منذ الثالث من يوليو عام 2013، وكم من غيرهم يقبعون داخل السجون، وآلاف أو قل إن شئت ملايين، باتوا يحيون القهر ويعانون الهوان والمذلة منذ أن تبصر أعينهم نور الصباح وحتى تأخذهم سنة من النوم ليلا.
ففي شوارع المحروسة و عربات المترو والحارات وعلى المقاهي ترى المصريين وقد لفحت غيوم الهم وجوههم، وارتسمت تجاعيد الشيخوخة مبكرا على جبين شبابها.
هذه الإشكالية المركبة التي يعاني من ويلاتها المواطن المصري في حياته اليومية، وتتفاقم معها مشكلات البطالة وغياب الأمان المجتمعي، وحرمان المواطن من حقه في العلاج، هي نتيجة طبيعية لتراخي مؤسسات الدولة عن دورها، بدعوى انشغالها في الحرب على الإرهاب المحتمل.
كما أن القوى والتيارات والمؤسسات الرئيسة في مصر تتآكل تحت طيات هذا الصراع المحتدم، دون أن تدرك هذه الأطراف بعد أن ما تخسره البلاد جراء هذا الاحتراب إنما تدفع هي بالضرورة ثمنا باهظا فيه.
فما بين سلطة تمسك بالحديد والنار زمام الأمور في مصر غير مكترثة بالهاوية التي تلقي بالبلاد فيها من أعلى جبل القمع والعنجهية، والرافضون لحكم العسكر خاصة من تسلموا منهم مقاليد الأمور في البلاد من قبل، ولم يفلحوا في قيادة السفينة الوطنية إلى بر الأمان، وكانوا شاءوا أم أبوا من بين أسباب الواقع المرير الذي تحياه البلاد، مع الوضع في الاعتبار العقبات والعراقيل التي دُبرت لمنعهم من الإبحار، العاجزون حتى الآن عن تقديم رؤية متكاملة لإدارة الدولة ومستقبلها، أو تشكيل جبهة موحدة تجمع التيارات الوطنية، ما بين هؤلاء وهؤلاء تغوص مصر في بحر من الدماء والتيه تفقد في كل يوم قدرتها على العودة من منتصف طريق الظلام، وتخطو مسرعة إلى آخر غياهب البئر ونهاية النفق.
بيئة كهذه تشبه تماما نفس مقدار التهيئة والاستعداد لطوفان قادم كطوفان "نوح" فبعد أن لبث نبي الله نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ولم يؤمن معه إلا قليل، أمره الله بصناعة السفينة، وأن يحمل معه فيها من كل زوجين اثنين، ليفصل الله بين من آمنوا مع "نوح" عليه السلام، ومن كفروا بدعوته وسخروا منه.
إلا أن الطوفان القادم في مصر ليس لحماية مؤمنين وهلاك كافرين، وإنما طوفان يغرق فيه الجميع، وأمواجه ستبتلع الكل ولن تفرق، بدون جبل يأوى إليه أحد ليعصمه من الغرق.
فأنّى لمصر بـ"نوح" جديد، يصنع السفينة ويتحمل السخرية والاتهامات المعلبة ممن صمّوا أذانهم عن سماع كلمة النصح، وممن استغشوا ثيابهم وعصبوا أعينهم عن أنهار الظلم التي أغرقوا فيها البلاد وأصروا واستكبروا استكبارا.
أنّى لمصر بـ"نوح" جديد يصنع السفينة، ويغسل شوارعها من دماء الأبرياء، ويعيد لبناتها حقوقهن التي سُلبت، ويعوّض شبابها وكل يوسف فيها قال رب السجن أحب إليّ، ويأخذ بيد فقيرها إلى عمل يحفظ عليه ماء وجهه من ذل السؤال ويسمن أولاده من جوع، ويخفف من آلام مريض افترسته يد الإهمال وقلة الحيلة
أنّى لمصر بـ"نوح" جديد يصنع سفينتها ويعيدها سيرتها الأولى كما ذكرها الله في كتابه "أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.