على تركيا أن تتبنى سياسة إقليمية إزاء الأكراد

لقد أصبحت الحاجة إلى تطوير سياسة إقليمية حكيمة تجاه الأكراد ملحّة أكثر من أي وقت آخر، خاصة أن الحضور الكردي قد أصبح واقعاً في الشرق الأوسط. لا يفصل السياسيون الكرد بين التطورات على الساحة الإقليمية الكردية عن سياستهم تجاه تركيا وعملية السلام.

عربي بوست
تم النشر: 2015/09/11 الساعة 07:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/09/11 الساعة 07:22 بتوقيت غرينتش

بعكس الفهم السائد، ليس لدى تركيا سياسة إقليمية عامة تجاه الأكراد. نعم، القضية الكردية مطروحة منذ الأزل. نعم، لم تكبح أية قضية أخرى جماح التطور السياسي التركي وتؤثر على سياستها الخارجية مثلما فعلت القضية الكردية. نعم، لم تكلف أية قضية أخرى تركيا هذا الكم من الأموال والدماء. لكن الحقيقة أن تركيا ليس لديها سياسة إقليمية عامة تجاه الأكراد، رغم التغيرات الجذرية في الحالة الجيوسياسية الكردية في المنطقة.

لا يعني هذا أن تركيا لم تتبنى سياسة إقليمية كردية أبداً طوال تاريخها، إذ كانت تركيا تمارس سياسة معينة طوال معظم تاريخها الحديث، رغم أن هذه السياسة كانت إشكالية. كانت السياسة الإقليمية التركية حينها غير بعيدة عن سياستها الداخلية تجاه المسألة الكردية. كان الإنكار والقمع السمتين الأساسيتين لسياسة تركيا تجاه أكرادها في الداخل، بينما كان الرفضُ، المواجهة والمساعدة في وأد أي مكسب كردي ميزاتِ سياستها تجاه الأكراد خارج حدودها.

حين أثبتت هذه السياسة أنها غير فعالة، تم تبني سياسة جديدة: تحريض الجماعات الكردية المختلفة ضد بعضها. بدت هذه السياسة مثمرة لوهلة، ففي ذروة هذه المرحلة في تسعينيات القرن الماضي، كانت الأحزاب الكردية تعاني من خلافات، منافسات قاتلة وصراعات حزبية طاحنة، ما منح هذه السياسة مناخاً ملائماً لإنجاز أهدافها. كانت ثمة ثلاثة مجموعات كردية رئيسية متناحرة حينها، وتجلّى الصراع والمنافسة بين هذه القوى على مستويين.

الصراع الكردي الداخلي

أولاً، على مستوى كردستان العراق. بدأ الصراع هناك بين الحزب الديمقراطي الكردي، الذي يقوده رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يقوده الرئيس السابق للعراق جلال طالباني. كلفت هذه الحرب الأهلية الأكراد الكثير من الدماء، الأموال والهيبة. أضعفتهم الحرب سياسياً، وقادت إلى نشوء منطقتين إداريتين في كردستان العراق، الأولى كانت تحت إدارة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ومقرها السليمانية، والثانية تحت إدارة الحزب الديمقراطي الكردستاني ومقرها أربيل. أضعف هذا موقف الأكراد أمام الحكومة المركزية في العراق. كان للعراق، إيران وتركيا دورٌ في التلاعب بهذا الصراع.

ثانياً، على مستوى المشهد السياسي الكردي الإقليمي. ظهر صراع دموي آخر بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. النزعات الإيديولوجية المختلفة بين حزب العمال الكردستاني ذو الميول الماركسية والحزب الديمقراطي الكردستاني ذو الميول المحافظِة الوطنية، الطموحات الجيوسياسية في الانفراد بقيادة الكرد في المنطقة، والعداوة الشخصية بين أوجلان والبرزاني، كلها ساهمت في تأجيج الصراع. هذا الصراع ايضاً كلف الكرد الكثير من الدماء ووسّع الهوّة بين الأحزاب الكردية المختلفة. ولأن تركيا ترى حزب العمال عدوها اللدود، فقد رمت بكل ثقلها لدعم الحزب الديمقراطي في الصراع.
في عام 1998، وقّع البارزاني والطالباني اتفاقية واشنطن بإشراف الولايات المتحدة الأميركية. أوقف هذا الاتفاق الصراع الداخلي الكردي المحتدم والحرب الأهلية في كردستان العراق. لكن الاتفاق لم يلغي الحكم المزدوج لكردستان العراق بين السليمانية وأربيل. هذه الخطوة اتُخذت بعد الغزو الأميركي للعراق.

في عام 2003، اتفق الحزبان على إنشاء "قيادة عليا مشتركة" في كردستان العراق بزعامة البارزاني والطالباني. تحولت هذه "القيادة المشتركة" إلى إدارة واحدة ورئيس واحد ومنصب رئيس وزراء يتناوب عليه أعضاء من الحزبين. أنهى هذه الاتفاق المرحلة المسلحة من الصراع بين الحزبين، وهو ما عزز موقف الأكراد أمام الحكومة المركزية ومنح قوة معنوية لمطالبهم إذ أصبحوا يمثلون قوة وطنية موحدة.

بالمقابل، أفضى اعتقالُ زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، إلى التلاشي التدريجي للمنافسة بين الحزب الديمقراطي وحزب العمال، أو بين أوجلان والبرزاني. وكان لوقف إطلاق النار الذي أعلنه حزب العمال دورٌ في التقارب مع الحزب الديمقراطي.

وهكذا، منذ بدايات القرن الحالي وحتى السنوات الأخيرة، أصبحت طبيعة العلاقات السياسية الداخلية الكردية أكثر ميلاً إلى التسوية والتعاون. هذا السلام بين الأحزاب الكردية خلق مناخاً اجتماعياً مميزاً للتعاون الكردي، وهو ما تجلى واضحاً خلال المعارك بين "الدولة الإسلامية" والأكراد في العامين الأخيرين.

تصادفت هذه الفترة مع تغير واضح في تعامل تركيا مع الأكراد. شهدت السنوات الأولى من هذا القرن بدايةً جديدة لتعامل الدولة التركية مع الأكراد. لم يعد يُنظر إلى القضية الكردية بمنظورٍ أمني، ولم تعد الطرقُ العسكرية حلّها "السحري". اعترف رئيس الوزراء حينها، الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، بوجود المسألة الكردية، وأقسم على حلها سياسياً في عام 2005. منذ ذلك الحين، كانت ثمة الكثير من المحاولات لحل هذه القضية. تجلت هذه المقاربة الجديدة للكرد في علاقة الحكومة التركية مع حكومة إقليم كردستان، فبدأت العلاقة الحميمة بينهما منذ عام 2007 وتطورت لاحقاً لما يمكن وصفه بالعلاقة "الاستراتيجية".

العامل السوري
لكن هذه الصورة تعرضت لتراجع لافت مع بداية الربيع العربي، خاصة بعد تعقد الأمور في سوريا. عجّلت الأزمة السورية من جهود تركيا لإطلاق مبادرة السلام مع حزب العمال الكردستاني بمشاركة علنية من زعيم الحزب في المحادثات. ظهور البعد الكردي للأزمة السورية في صيف عام 2012 شكّل المزيد من الضغط على صانعي القرار في أنقرة لإيجاد حل سياسي للمسألة الكردية. لكن ازدياد نفوذ حزب العمال في القسم الكردي من سوريا أوهن عزيمته تجاه الوصول لحل سريع.

بدأ حزب العمال بالتفكير أنه ما إن تتعزز مكاسبه في سوريا، سيستطيع الجلوس على طاولة المفاوضات مع تركيا وهو في موقف أقوى ليطالب بمزيد من التنازلات، وهكذا اعتبر أن التقدم في عملية السلام مع تركيا مرتبط بالتطورات الحاصلة في الجزء الكردي من سوريا، وبموقف تركيا منها. أخيراً، قادت المعارك بين الأكراد والدولة الإسلامية إلى تدهور العلاقة بين تركيا وأكراد المنطقة.
المناخ الكردي العام الجديد
لا شك أن نفس العملية أعادت المنافسات الكردية القديمة. عادت العداوات القديمة للظهور لأسباب جديدة: سواءٌ حول الهيمنة على الساحة السياسية الكردية في سوريا بين حزب العمال والحزب الديمقراطي، أو الهيمنة على الساحة السياسية الكردية في العراق بين الحزب الديمقراطي وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني. لكن من غير المرجح أن تأخذ هذه المنافسة شكل صراعٍ مسلح.

بعكس تسعينيات القرن الماضي، لدى الأكراد الكثير الذي يمنعهم من خوض قتال دموي: لديهم دولةٌ شبه مستقلة في العراق، بذرةُ منطقةِ إدارةٍ ذاتية في سوريا وحضور سياسي قوي في تركيا. ثمة قناعةٌ أيضاً بأنه لا يمكن الحفاظ على هذه المكاسب دون علاقات تعاونٍ بين الجماعات الكردية المختلفة. علاوةً على ذلك، ثمة مناخ عام كردي قوي لا يسمح بنشوب صراع عنيف.

رغم هذا كله، تفتقر تركيا إلى سياسة إقليمية عامة تجاه الأكراد. تبنت تركيا حتى الآن سياسة مفككة تجاه أكراد المنطقة، إذ أقامت علاقات استراتيجية مع إقليم كردستان العراق الذي يقدم الدعم المالي لحزب الاتحاد الديمقراطي (المرتبط بحزب العمال الكردستاني) في القسم الكردي من سوريا. هذه السياسة قد تنجح لو كانت العلاقات الكردية الداخلية تتسم بالصراع والتوتر، وليس التعاون. لذا، ترتبط هذه الاستراتيجية بالتطورات الكردية الداخلية وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها على المدى البعيد.

لقد أصبحت الحاجة إلى تطوير سياسة إقليمية حكيمة تجاه الأكراد ملحّة أكثر من أي وقت آخر، خاصة أن الحضور الكردي قد أصبح واقعاً في الشرق الأوسط. لا يفصل السياسيون الكرد بين التطورات على الساحة الإقليمية الكردية عن سياستهم تجاه تركيا وعملية السلام.

لذا تحتاج تركيا إلى تبنّي سياسة كليّة تجاه الأكراد في المنطقة، وأي رهان أو استثمار لسياسات المرحلة السابقة سيقود إلى الفشل على الأغلب. الوصول إلى سياسة إقليمية حكيمة إزاء الأكراد خطوةٌ تأخرت كثيراً ويجب اتخاذها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع

تحميل المزيد