كلمة السر كانت دائما عند العقيد كفاح ملحم، ضابط الارتباط بين باسل الأسد ومحمود الزعبي، ومنه كان الأخير يتلقى التعليمات حول مختلف القضايا من إقرار صفقة فساد إلى تعيين مدير عام أو طرد مدير آخر. وبعد مقتل باسل الأسد تابع العقيد مهمته بين الزعبي وبشار.
وصول العقيد ملحم إلى مكتب رئيس الوزراء كان يخلق ارتباكاً فلا أحد يعلم ماذا يحمل معه في كل زيارة من توجيهات، وفي حالات كثيرة كان الزعبي يضطر لإنهاء الاجتماع عندما يأتي العقيد من دون موعد مسبق.
كان حلم الوزير – أي وزير – أن يحظى بابتسامة عطف من العقيد، فذلك يعني أن أموره بخير عند باسل الأسد، والأمر نفسه ينسحب على رئيس الوزراء الذي كنا نقرأه من خلال تعابير وجهه بعد انتهاء مثل هذه الزيارات.
إحدى زياراته هذه في منتصف التسعينات استدعت الدعوة لعقد اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للسياحة.
في معظم اجتماعات هذا المجلس كان هناك بند لا يتزحزح من ورقة جدول أعماله عنوانه: حديقة المعرض في شارع بيروت بدمشق، والمخصصة لإنشاء فندق كبير، ودائماً كان يتم تأجيل بحث هذا البند بدعوى ضرورة إشباعه بالنقاش بينما كان واقع الحال يقول إن القرار لا يمكن أن يتخذ إلا اذا أتى من "فوق".
بعد انتهاء زيارة العقيد ملحم هذه انعقد المجلس وقال الزعبي: نحن هنا لنتخذ القرار المناسب، عندنا عرض سعودي وآخر كويتي، وأعلمني بشار – كان وليّاً للعهد – قبل قليل أن الأمير الوليد بن طلال سيحضر بعد قليل لتقديم عرضه وإذا كان مناسباً وأفضل من العرضين الآخرين نمنحه الموافقة وإلا سنعتذر منه.
ولكن من هو الفدائي الذي كان يستطيع أن يقول لا وأن يرفض؟!… من يملك ومن يحكم هو من يقرر وهو من قال للأمير الوليد إن أرض حديقة المعرض لك.
دخل الوليد بن طلال الى قاعة الاجتماع وعندما طلب منه رئيس الحكومة الجلوس لمناقشة عرضه اعتذار وقال: الله يخليك أبو مفلح (محمود الزعبي) أنا مستعجل ومشغول وقال لي بشار قبل قليل أرض المعرض لك ولن تكون لغيرك.
هنا ضحك الجميع لأنهم أدركوا أن الصفقة حسمت وهنأوه عليها قائلين: ألف مبروك.
أراد محمود الزعبي إخراج المسرحية بشكل لائق فطلب الحوار مع الأمير كي لا يقال إن الصفقة هي صفقة بشار، ولكن غطرسة الأمير وإهانته لمجلس يضم أكثر من عشرين وزيراً، ورفضه الجلوس معهم حرق طبخة رئيس الوزراء.
قضية حديقة المعرض لم تكن قضية فساد فحسب بل كشفت أيضاً آلية اتخاذ القرار في سوريا وكيف يمكن لشخص مثل بشار لا يشغل أي منصب رسمي أن يوجه الحكومة وأن يكون صانع القرار. وكانت الصفقة أيضاً حلقة من مسلسل تصفية الحساب مع رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان، واذا كانت عملية تصفية الحساب هذه بدأت بالمناكفة فإنها انتهت في 14 شباط/فبراير 2005 باغتيال الحريري في بيروت.
كان بشار يرى في الوليد بن طلال الشخص المناسب لتصفية حساباته مع الحريري فإذا كان "الشيخ" رفيق محسوباً على السعودية فإن الأمير سعودي وأمه ابنة الزعيم اللبناني رياض الصلح وخالته زوجة الأمير عبد الله شقيق الراحل الحسن الثاني ملك المغرب وابن خالته الأمير هشام ابن عم ملك المغرب محمد السادس وثروته تبلغ أيضاً أضعاف ثروة رفيق الحريري، وبالتالي فمن الطبيعي، وفق حسابات بشار هذه، أن يضيع رفيق الحريري وسط هذه الزحمة العائلية والسياسية ولكن غاب عن بشار أن الأمير لا يستطيع لعب هذا الدور لأسباب سعودية، ففشل مشروع بشار في إيجاد بديل مناسب للحريري.
المناكفة مع الحريري تحولت الى صراع فأبعد عبد الحليم خدام عن تولي الملف اللبناني ليمسك به بشار، وتم تعيين رستم غزالة مكان اللواء غازي كنعان مسؤول الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان.
الخطيئة القاتلة التي ارتكبها الحريري وفجرت أحقاد بشار كانت يوم وضع طائرته الخاصة تحت تصرف العماد حكمت الشهابي رئيس الأركان لتقلع به إلى أمريكا.
يومها طلب حافظ الأسد من الشهابي تولي رئاسة الوزراء خلفاً للزعبي، وكان من الطبيعي أن يرفض هذا الطلب لأنه سيحوله الى مرؤوس عند بشار الذي كان يقول له قبل ساعات: "عمو حكمت". وكان سيتعرض للإهانة أيضاً عندما يتلقى التعليمات من صبي بشار كفاح ملحم.
يومها نام العماد حكمت في منزل الحريري قبل أن يتوجها معاً إلى مطار بيروت لتحمله طائرته الخاصة إلى أمريكا، وبقي هناك لسنوات قبل أن يتدخل "الأوادم" لإقناع بشار بالسماح بعودته إلى سوريا لأنه يريد أن يموت على أرضها وهو ما حدث بالفعل.
في نهاية الستينات من القرن الماضي وقع خلاف كبير بين عائلتي الأسد وإسماعيل في القرداحة مسقط رأس الأسد وكاد أن يتطور إلى مواجهة مسلحة بين العائلتين.
اقترح حافظ الأسد يومها، وكان وزيراً للدفاع، إرسال وفد من القيادة القطرية للحزب برئاسة صلاح جديد لحل هذا الخلاف.
حاول الوفد كثيرا ولكن جهوده باءت بالفشل بعد ساعات طويلة من الجدال.
على بعد مئات الأمتار من القرية التي تحولت الى مدينة أوقف صلاح جديد السيارة على تلة تشرف عليها وقال مشيراً بإصبعه نحوها: تذكروا يا رفاق ما سأقوله لكم: إن خراب الأمة العربية سيأتي من القرداحة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع