في عام 2005 كنت أبشر من حولي بانتهاء دولة انقلاب يوليو 1952، وكنت أقول لكل من أعرف إن مبارك مصيره – إذا مدَّ الله عمره – أسود، وأن مشروع توريث جمال مبارك لن يمر.
لم يصدقني إلا قلة من الحالمين، غالبيتهم من الشباب.
كنتُ أرى أن هذه الدولة أضعف من أن تستمر، وكنت ألمح جيلا جديدا لا يملك سوى أن يتمرد، فهو محاصر في مصر، لا يستطيع أن يهاجر، ولا يستطيع أن يصل إلى حد الكفاف، بل إن بينه وبين الكفاف أمدا بعيدا.
انهيار النظام (من الداخل) كان من أهم سيناريوهات الانهيار الذي كنت أتوقعه، وكنت ألمح ذلك في وجوه عساكر الأمن المركزي، فهم غلابة، لا ناقة لهم ولا جمل، وسوف يوضعون في اختبار صعب حين يتحرك الناس.
ما زلت أذكر في عام 2007 في اعتصام موظفي الضرائب العقارية الشهير … حين ذهبت لتأييد المعتصمين، ألقيت كلمة بدأتها بتحية لرجال الشرطة، ووجهت لهم سؤالا مباشرا (يا رجال الشرطة … متى ستتظاهرون معنا؟)!
وتنبأت في ذلك اليوم بأن يتحرك العاملون في وزارة الداخلية ضد النظام، وهو أمر حدث، وسيحدث … وسيزداد.
في عام 2005 كنت على ثقة أن التظاهرات المتفرقة من أسوان إلى الإسكندرية ستتجمع يوما في تظاهرة واحدة، وهو ما حدث في ثورة يناير، وكنت أستغرب كيف لا يرى الآخرون هذا الأمر رغم وضوحه؟!
اليوم … يتكرر المشهد … ونرى تظاهرات أمناء الشرطة، وتظاهرات موظفي الحكومة ضد قانون الخدمة المدنية … ولا أحد يريد أن يلمح الحقيقة رغم وضوحها، وهي أننا أمام احتمالات انهيار ثم انفجار، والمسار الذي يسير فيه هذا النظام الغبي العميل لن توصلنا إلا إلى إحدى النتيجتين … الانهيار … ثم الانفجار … وهما اسمان لشيء واحد، ونسأل الله أن يحفظ مصر من شر هذا الشيء المرعب الذي نتحدث عنه.
لقد ربى نظام الاستبداد وحوشا ضارية، جيشا من البلطجية، وجيشا من أمناء الشرطة، وجيشا من العاملين في المحليات، وجيشا من الأمن المركزي … وغيرهم وغيرهم من حرافيش المنتفعين بالاستبداد، وهؤلاء أصبحوا خطرا على السلم العام، وعلى المجتمع كله، بعد أن أفرطت الدولة في سياسات الثواب والعقاب، مما أدى إلى مزيد طمع وجشع (كما في حالة أمناء الشرطة)، أو إلى مزيد خوف وهلع (كما في حالة الموظفين).
سياسات الثواب تستفز غالبية جيل الشباب من المصريين، وأصبحت رشوة صريحة لغير المدنيين، آخرها ما سمي بدل قناة السويس الجديدة، بل إن سياسة الثواب تلك أصبحت تستفز فئات داخل النظام نفسه (أمناء الشرطة مثلا)، ولو استجاب النظام لهم فسوف يستفز ذلك ضباط الداخلية، وسيسصبح لهم مطالب، ولو استجاب لهم النظام سيخرج له آخرون بمطالب أخرى.
نحن أمام نظام يُضيِّق على الناس في كل شيء، لكي ينعم العسكريون بمخصصاتهم التي تتضاعف كل عام عدة مرات !
سياسات العقاب أيضا تستفز غالبية المصريين، والدليل على ذلك خضوع الدولة لإرهاب أمناء الشرطة، وخضوعها لمطالبات اعتصامهم المسلح، في الوقت الذي يعتقل فيه عشرات الآلاف من خيرة شباب مصر في سجون قذرة، بتهم سخيفة، تغطي الدولة بها حربها المفضوحة ضد جيل الشباب الطامح في التغيير.
السخرية من مشهد تظاهر أمناء الشرطة أخذت حيزا كبيرا، ويبدو أن كثيرا من الناس لا يلمحون خطورة هذا الحدث (التاريخي)، ولايتخيلون عواقبه، هذا حدث أكبر من السخرية.
إياك أن تعتقد أن مساحة التمرد صغيرة أو محدودة، لقد قمعت الشرطة العسكرية العديد والعديد من الاعتصامات والاحتجاجات العمالية في المصانع والموانئ والشركات، وصل بعضها إلى حد القتل بالرصاص الحي، كل ذلك حدث خلال العامين الماضيين (بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013).
إن ثورات الجياع، وانهيار الدول لا تبدأ بتحرك أصحاب الأفكار والسياسيين المؤدلجين بالضرورة، بل إنها قد لا تبدأ بتحرك آحاد الناس الجائعين المظلومين … هذا النوع من الكوارث قد يبدأ بتحرك جيوش البلطجية … أو بتمرد أمناء الشرطة … أو بعساكر الأمن المركزي … حينها يبدأ الانهيار … وإذا بدأ ستجد ملايين الجائعين قد خرجوا من بيوتهم ليأكلوا الأخضر واليابس.
مساحة التمرد التي نراها الآن ليست إلا قمة جبل جليد … والغاطس فيه أكبر عشرات المرات من الظاهر منه، وعواقب هذا التمرد سندفع ثمنها جميعا … إنها لعنة ستحل على الجميع … فتنة لن تصيب الذين ظلموا منا خاصة!
مصر تحتاج إلى منقذ … ينقذ الدولة المصرية من سفهاء حكموها ستين عاما حتى أصبحت على شفا الانهيار، وهذا المنقذ هو ثورة يناير، وما يحدث اليوم من قمع هو محاولة عقيمة من نظام مات إكلينيكيا منذ تسعينيات القرن الماضي، ولكنه يحاول أن يثبت أنه ما زال على قيد الحياة بقتل كل فرص الحياة لكي تصبح الدنيا مواتا في موات.
هناك مزيد من التصعيد من أمناء الشرطة ومن الموظفين في شهر سبتمبر القادم، ومن المتوقع أن تزداد مساحات التمرد، وأيا كانت نتائج التصعيد فإن الدولة المصرية على منزلق خطر، وحمايتها اليوم مرهونة بكوابح العقل، والعقل أداة لا يستخدمها هؤلاء الجاثمون على كراسي المسؤولية، فكل ما يهمهم هو أن تمتلئ جيوبهم بالمال، وأن تمتلئ مخازنهم بالذخيرة، وهم لا يدركون أن امتلاء صندوق الذخيرة لا ينقذ حين تمتلئ الأرض بالظلم، وحين تفرغ بطون الناس من لقمة عيش تسد الرمق.
حذرنا … وما زلنا نحذر … الانهيار قادم !
• ملحوظة : ما حدث مع الدكتور حسن الشافعي، والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف يدل على أن انحطاط إدارات الجامعات المصرية وصل إلى حد العار.
فبعد الفصل النهائي لمئات الطلبة، وبعد منع المتفوقين من كليات يستحقونها، وبعد آلاف الانتهاكات الموثقة … وصلت الجرأة بمخبرين في هيئة أساتذة أن يتجرأوا على أساتذة كبار أحذيتهم أشرف ممن تجرأ على توقيع قرار فصلهم تنفيذا لأوامر المخابرات.
سيدفع هؤلاء المخبرون ثمنا غاليا لما فعلوه في جامعاتنا، وسيبقى أساتذتنا في مقامهم الأعلى … برغم حثالة البشر الجالسين في المكاتب المكيفة.
• تحية إلى شباب لبنان : يعيش لبنان اليوم أياما تاريخية، يتحرك فيها جيل جديد يرى الإنسان إنسانا قبل أن يراه مسيحيا أو درزيا أو مسلما سنيا أو شيعيا !
شباب لبنان اليوم يسطرون مدونة أخلاقية جديدة في هذا البلد الجميل.
شباب لبنان عاشوا مع شباب مصر ثورتهم العظمى في يناير 2011 دقيقة بدقيقة، وشاركونا كل آلامنا وآمالنا، وانتصاراتنا وانكساراتنا … لقد عاش معنا شباب لبنان كل فصول ثورتنا منذ انطلاق ربيعها حتى اليوم.
من واجبنا أن نحيِّي هذا الحراك السلمي الراقي، وأن نستنكر التعليقات العنصرية الذكورية البغيضة التي تخرج من كثيرين، بلا مبالاة أو مراعاة لعظمة وجدية ما يحدث في شوارع بيروت.
تحية لكل شباب وشابات لبنان … جيلكم يستحق أن يعيش في ربيع طيب الرائحة، ومن حوَّلوا الحياة إلى مزبلة حقيقية لا يستحقون إلا أن ينصرفوا، ولا يستحقون منكم إلا كلمة واحدة (طلعت ريحتكم) !
وأنتم تستحقون منا باقة ورد بحجم حبنا لأوطاننا … وبحجم احترامنا لكم … وبقدر خجلنا من تعليقات البعض التي لا تمثل إلا أصحابها!
تحية لكل شباب لبنان الحر من شباب ثورة يناير … وفقكم الله لكل ما فيه خير لبنان وخير الأمة العربية كلها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع