في الجزائر انتصر الحب على السياسة، فبينما كان البعض يدعو لاستقلال الأمازيغ عن العرب، كان الحب يقرّب المسافات بينهما في اتحاد من نوع آخر، لا يعترف سوى بالحب الأزلي بين المرأة والرجل.
ورغم ازدياد وتيرة الترويج لفكرة الأقليات والدعوة للاستقلال الذاتي وفصل الأمازيغ عن العرب، خصوصاً بضواحي تيزي وزو وبجاية ومؤخراً بمنطقة غرداية، فإن التزاوج بين العرقين وقصص الحب التي تحدت عائق اللغة والقومية استطاعت أن تنتصر على الدعوات الانفصالية.
سطيف وبرج بوعريريج نموذجان للتعايش
تعد محافظتا سطيف وبرج بوعريريج، اللتان تبعدان نحو 300 كلم شرق العاصمة، نموذجين ناجحين للتعايش الاجتماعي بين العرب والأمازيغ، أو بين الجنوب حيث يتواجد العرب والشمال حيث تستقر القبائل الأمازيغية.
ما أن يحل الصيف حتى تعج طرقات المحافظتين بمواكب العرسان المتوجهة نحو بلدات الشمال لزف بنات الأمازيغ، والعكس صحيح إذ أن بعض رجال الأمازيغ يفضلون بنات العرب وإن بنسبة أقل.
كانت الساعة تدق التاسعة صباحاً عندما بدأت الوفود تصل إلى بيت الجودي في بلدية "ذراع قبيلة" شمال غرب محافظة سطيف لزف ابنته. تم استقبال الوافدين بـ"السيار"، وهو الغربال باللغة العربية، والمليء بالمكسرات كالجوز واللوز وبعض الفواكه المجففة كالتين، تماشياً مع تقاليد الضيافة المتوارثة من جيل لآخر.
في تلك الأثناء كانت النسوة في الداخل تغنين باستعمال "البندير"، وهي آلة موسيقية كالدف تصنع من جلد الماعز، وأغلب الأغاني المؤداة باللهجة المحلية الـ "قبائلية" لتتغنى بالعريس والعروس وتدعو لهما بالهناء والسعادة والذرية الصالحة.
بعد قرابة ساعتين من الزمن يصل موكب العريس القادم من منطقة "قجال" التابعة لعرب سطيف بالجنوب على وقع طلقات البارود وزغاريد النسوة. يتقدم العريس نحو والد العروس مقبّلا رأسه.
أما الأب فيُجلس العريس على مائدة تحفل بما لذ وطاب من المشروبات والحلويات محلية الصنع، قبل أن يتقدم أخ العروس ليقدم للعريس "برنوس" قبائلي (عباءة) ويدخله إلى البيت ليلتقي زوجته.
في الداخل يتم استقبال العريس بالحليب والتمر وطبق "الطمينة" المصنوع من الدقيق والعسل وحبات الرمان، وربما من أجمل بل وأطرف ما يمكن مشاهدته هو ضحكات أهل العروس والعريس، على الرغم من بعض المعارضين سيما بين كبار السن الذين لا يثقفون العربية والعكس صحيح بالنسبة لأهل العريس الذين لا يحسن الكثير منهم الأمازيغية.
دقائق تمضي ثم يخرج العريس من البيت ومعه زوجته وهي ترتدي جبة قبائلية بألوان زاهية وفوقها "آقاشوش" وتعني التاج الفضي. يتجه العروسان للسيارة التي وضع تحت عجلاتها الأمامية حبتا بيض، وهي عادة قديمة تربط بين كسر البيض والتوفيق والسداد للعروس بعد فراقها الأهل.
المهر دولار واحد أو أقل
لعل العنوان سيدهش الكثيرين، لكنها حقيقة بالفعل في مثل هذه المناطق. "الجودي" مثلاً أكد أن مهر ابنته لم يتعد ورقة الـ 1000 دينار جزائري، أي ما يعادل دولار واحد.
وأضاف: " عندما تقدم سليم لخطبة ابنتي طلبنا منه التمهل حتى تتم تقاليد الشورى والتحري، وبعدها تم تحديد موعد التقدم الرسمي للخطبة، حيث اكتفينا بالـ 1000 دينار جزائري قُدمت للعروس، إضافة لبعض الأغراض الخفيفة التي يحضرها العريس كالجهاز، وهي عبارة عن قطعة ذهبية كالسوار أو قيراطين أو عقد، إلى جانب بعض الملابس وفق مقدرته المالية طبعاً، فالماديات لا تهم أمام سعادتها".
مهور ميسرة
يقول الدكتور والشيخ إبراهيم بودوخة إمام مسجد العتيق بمحافظة سطيف في تصريح لـ "عربي بوست"، إن منطقة القبائل بحكم محافظتها على بنيتها الدينية الإسلامية تعي جيداً أن أيسر البنات مهوراً أكثرهن بركة، لذا فهي تطبقها على أرض الواقع.
من جانبها، ربطت الأستاذة المتخصصة في علم الاجتماع حنان بودهان بين غلاء المهور وعزوف الشباب عن الزواج، وأوضحت لـ "عربي بوست" إن تأخر الزواج يؤدي لانتشار الآفات والخروج عن الأخلاق، داعية بقية المناطق الجزائرية إلى الحذو بمنطقة القبائل لتحفيز الشباب على الزواج.
تاريخ المهور الميسرة
يعتبر الباحث في التاريخ بلال بارة أن انخفاض المهور يرجع لأسباب تاريخية شهدتها منطقة القبائل. كانت هذه المنطقة تدعى بلاد الزواوة نظراً لكثرة الدويلات الإسلامية فيها، وتحديداً في العهد العثماني. هذه الزوايا، حسب بارة، حلّت محل السلطة الدينية والسياسية والاجتماعية في كثير من الأحيان، خاصة وأن سكانها رفضوا الاندماج مع الأجانب الوافدين خلال الاستعمار الفرنسي، فكانت أبرز ما تتولاه التكفل بالزواج ومتطلباته وأهمها تخفيض المهور.
وتولت الزوايا مهمة إعداد الولائم للعروسين نظراً لطبيعة المنطقة المعزولة والفقيرة بالتعاون مع الأقارب والجيران، ليتوارث أهل المنطقة هذه العادات والتقاليد أباً عن جد فبقي المهر حتى اليوم ما يعادل 50 فرنك فرنسي ذلك الزمن – أي 100 دينار حالياً -.