أردت منذ فترة أن أكتب عن لقائي بشاعر فلسطين "محمود درويش".. لكني لم أفعل خوفًا من دخول الذاكرة في غيبوبة من الأسى والحنين.. لهذا أجّلتها مرارًا..
إلى محمود درويش في يوم ميلادك أو رحيلك.. أشاركك ما مرّ بي.. وأريدك أن تعرف أن فلسطين بالنسبة لي هي قصائدك.. سأروي لك ما كان.. يوم 22 كانون أول (ديسمبر) 2013..
منذ أن رحلت عنا.. لم أتجرّأ أن أزور ضريحك الساكن على تلّ في رام الله والمُطلّ عليها كما "لا تريد".. ربما.. كانت البروة.. مكانك الأقرب إلى مُشتهاك ..
كان ذلك في شتاء 2013.. يوم بارد.. صامت.. ماطر.. لكنه جميل.. كنت أسير في شوارع رام الله.. أتسكّع ريثما يحين موعد التدريب مع الأوركسترا النرويجية في قصر الثقافة.. والمحاذي لمتحف "محمود درويش".. حيث ضريحه..
استوقفت سيارة أجرة وعدت إلى شارع القصر.. دخلت من البوابة الرئيسة.. وفجأة.. لا أعرف ما الذي استوقفني.. كأنه جدار شفاف حال دون خطواتي..
التفتُ يسارًا.. إلى ذلك التل الصامت المحاط بأحجار بيوت فلسطين القديمة.. وإذ بي أقرأ: "هنا يرقد بسلام – محمود درويش".. شُلّت حركة خلاياي.. وعدت إلى بوابة قصر الثقافة.. خرجت منها.. وسرت كالهائمة إلى مكان رقدت فيه روح درويش..
هناك.. كانت حيث تراكمت أدراج حجرية.. يُمكن أن يصعدها الزائر ويصعدها.. وكأنها لا تنتهي.. ففعلت..
صعدت.. صعدت كثيرًا.. وقلبي ينتفض في مكانه.. يضرب صدى المكان من شدّة الانفعال.. أحاسيسي كانت تحمل وطناً بحاله.. بكل تفاصيله وكل وجعه وفرحه وانتظاره.. خفت أن لا يحتمل قلبي الصغير ويتوقّف.. ولو توقّف للحظة.. كان سيصغي إلى أنفاسه.. "أنفاس محمود درويش في قصيدة (انتظرها)" (دروس من كاماسوطرا)..
كنت أصعد بجهد لاهثة.. وكأنني أصعد إلى الشمس..
نعم.. لتلتقي محمود درويش عليك أن تصعد إلى الشمس.. وصلت إلى قمة التل.. التفتُّ أولاً ورائي.. رأيت ما يراه شاعري المُفضّل كل يوم.. هذه رام الله وزهر اللوز.. وبعدها هناك.. يرى وراء الأفق كل فلسطين..
أحسست وكأني أتهرّب من لحظة اقترابي من الضريح وهذا اللقاء المؤجّل.. لا أعرف ما كنت أحس.. لكني أذكر أني كنت أحبس دموعي من أن تنفلت..
تأملت المكان.. الشاهد.. الشمس.. الغابة وراءه.. المغيب.. الصمت المُطلق.. حالة التأمّل نفسها.. اقتربت.. أنفاسي لم تعد تتحرك بانتظام.. كانت كالدوامة في كابوس حزين.. نعم.. فقدناه الآن.. نعيش مع قصائده.. وكم موجع أنه لن يكتب من جديد..
لا أستطيع أن أصف حالتي.. لكني لم أكن أرى شيئاً أمامي.. كل شيء غير واضح.. وممتزج بالأسى والدموع.. حالة من الانفجار الرطب في العيون..
دخلت إلى حديقة متواضعة حيث الضريح.. كنت وحدي.. لم يكن أحد في باحة المتحف.. ولا في الشارع.. ولا في الحي.. ولا في المدينة.. ولا في فلسطين كلها..
كان هو وأنا وحدنا صامتين..
لم يكن في يدي قصفة "حبق".. ولا بنفسج ولا سنابل قمح ولا باقة ورد.. لم يكن في كفّي شيء إلا حرارة أودعتها فوق الضريح..
ركعتُ أمامه.. سقط رأسي متألّمًا بين كتفيّ.. ذرفت دموعًا كثيرة.. بل أجهشت في بكاء.. كان يُشبه النشيج.. أعرف أني لم أزورك من قبلُ خوفًا من تلك اللحظة.. أعرف أني حين سمعت خبر وفاتك كنت في الشام.. آه كم أحسست بوحدة وغربة لحظتها..
لم أكن في جنازتك.. ولا في وداعك.. ولا في تأبينك..
لم أستطع أن أكون بين الملايين المنتكبة على موتك..
بقيت وحدي.. عرفت حزني بفقدانك دون أن يستعجلني أحد..
ألا تُدرك أنك كنت لي مقامًا للأنبياء؟ كانت قصائدك في روحي.. كشجر الليمون الذي لا يموت في أرض كنعان..
فجأة.. تدراكت نفسي.. أحسست ببرد كثيف في عيوني الدامية.. رفعت رأسي قليلًا.. انتبهت إلى ما كان مخطوطًا على الضريح "ونم يا حبيبي.. عليك ضفائر شعري.. عليك السلام"..
قرأت المقطع بصوت منخفض.. وبعفوية مُطلقة.. أخذت أغنّي "أثر الفراشة" التي غنيتها في ألبومي الأخير.. أحسست براحة.. بفرح طفيف في الخاصرة.. حملت عيوني المُثقلتَيْن من روحه الراقدة.. إلى الشمس..
وانتبهت إلى الشاهد.. وقد حُفرت عليه هذه القصيدة "أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول.. هو جاذبية غامض يستدرج المعنى.. ويرحل حين يتضّح السبيل.. هو خفّة الأبدي في اليومي.. أشواق إلى أعلى وإشراق جميل"!
ابتسمت وأنا أغنيها.. كان يُنصت إليّ ويسمعني.. وقفت بعدها.. وبصوتي حملت قصائده وروحه نحو الشمس..
إلى محمود درويش في ذكرى رحيله..
اشتقتُك..
ريم بنّا #فلسطين