قضى السفير السوري الرفيق ياسر الفرا (وهو بالمناسبة من مدينة حماه) فترتين متعاقبتين كسفير لسورية في كوريا الشمالية البلد الصديق لسورية، وقد قام الرفيق كيم إيل سونغ شخصياً بطلب التمديد له شخصياً من الرفيق المناضل حافظ الأسد، لأنه كان قريباً من قلبه ويحب قضاء يوم العطلة الأسبوعي برفقته، وعندما انتهت الولاية الثانية للرفيق السفير وهمّ بترك كوريا الشمالية، ولفرط شعوره بالامتنان تجاه محبة الرفيق كيم إيل سونغ له، وإيثاره قضاء العطل الأسبوعية معه دوناً عن كل الرفاق السفراء، بما فيهم الرفيق الأعلى سفير الاتحاد السوفييتي وقتها، رأى الرفيق السفير السوري أن من المخجل ألاّ يطلب تمثالاً للرفيق كيم إيل سونغ يحمله معه إلى سورية للذكرى، ولم يكذب الرفيق السفير خبراً، وفعلاً تمنى على الرفاق في وزارة الخارجية الكورية أن يهدوه تمثالاً للرفيق كيم إيل سونغ عربون محبة وصداقة ووفاء، وابتسم الإخوة الكوريون وتمتموا بلغتهم الغريبة التي لم يفهمها الرفيق السفير كلمات عديدة مرفقة مع حركات احترام وانحناء وضم لليدين إلى بعضهما البعض وطي للبطن وتقويس للظهر، لكنه أدرك بسبب إفراطهم في الانحناء أنها كلمات شكر ممزوجة بقبول الطلب، تعادل باللهجة الحموية "تكرم خيّو مو على راسنا" مع فارق الاختلاف في التعبيرات الحركية بين الثقافتين الحموية والكورية الشمالية.
وانتظر الرفيق السفير حتى يوم مغادرته لأرض كوريا الشمالية أن يصله التمثال أو يتصل به أحد من الرفاق في وزارة الخارجية الكورية بشأنه لكن ذلك لم يحدث، وقرر أن يسافر غير آسف على التمثال، بعد أن برأ ذمته وطلبه، على طريقة الذي يذهب إلى مقر الحزب فيجد الباب مغلقاً فيقول في سرّه: أحسن.. إنت المسكّر وأنا المستريح، حسب المثل الشعبي المعروف، وقد قمت باستبدال الجامع بمقر الحزب لضرورات تغيير البيئة.
المهم ما علينا، حمل الرفيق السفير حقائبه، واستقل سيارته إلى المطار، وهناك وجد المفاجأة بانتظاره، حين رأى الرفاق في وزارة الخارجية الكورية بانتظاره وليس وحدهم، بل كان معهم تمثال الرفيق كيم إيل سونغ مع اثنين من المرافقة يحملانه، وهنا ابتسم الرفيق السفير غبطةً وسروراً حتى بانت نواجذه كما يقولون في المسلسلات التاريخية التي يؤلفها هاني السعدي، ومد يديه وصافحهم براحتيه الاثنتين متمتماً بالشكر، وبعدما أنهى شكره ومصافحته اقترب من التمثال هاماً بإمساكه، لكن السحنة البشوشة للرفاق في وزارة الخارجية الكورية اختفت وحل مكانها سحنة جدية مع هرج ومرج وإشارات باتجاه الممر المؤدي إلى الطائرة، فقال في نفسه: يكتّر خيرهم، شو بتريد أكتر من هيك يارفيق (ويقصد نفسه)، الجماعة مابدهم يعذبوك، وبدهم يوصلولك التمثال لقلب الطيارة، إي والله بحماه بلدي مابيعملوها..
وفعلاً ذهب معهم وجلس في مقعده في الطائرة، وكانت رفاهية الدرجة الأولى والبيزنس كلاس غير موجودة في طائرات ذلك الزمن، وفي أحسن الأحوال كان هناك عدد من مقاعد البريمو في الطائرة، ثم وقبل أن يفكر أين سيضع التمثال فوجئ بمرافقي التمثال يجلسان بجانبه ويربطان الأحزمة وهما لا يزالان يحملان التمثال ويضمانه بين القفص الصدري والترقوة، وبعد شرح مستفيض من قبل الرفاق في وزارة الخارجية الكورية للرفيق السفير رداً على تعابير وجهه غير المصدّقة والمدهوشة، لم يفهم منه الرفيق شيئاً سوى أن الرجلين مع التمثال سيسافران معه، استسلم الرفيق السفير لقدره، وطارت الطائرة وهو يفكر طوال الرحلة كيف سيسلمانه التمثال عندما يصل إلى محطته القادمة موسكو التي سيتوقف فيها يومين لزيارة الرفيق ابنه الذي يدرس هناك قبل عودته إلى دمشق قلب العروبة النابض وعاصمة الصمود والتصدي كما كان يطلق عليها في ذلك الوقت.
لكن الرفاق الكوريين فاجأوه من جديد عندما وصل، إذ كان وفد من الرفاق في سفارة كوريا الشمالية في الاتحاد السوفييتي الذي لم يكن مغدوراً وقتها، ينتظر في مطار "شيراميتفا دفا" في موسكو تمثال الرفيق كيم إيل سونغ ومرافقيه والرفيق السفير السوري لاستقبالهم الاستقبال المناسب الذي يليق بتمثال للرفيق كيم إيل سونغ ومرافقيه، وبعد تحيات وأخذ ورد وهمهمات وخليط لغات بينها الكورية والروسية والعربية المطعمة ببعض الكلمات الحموية، فهم الرفيق السفير ياسر الفرا أن التمثال سيبيت معززاً مكرماً في سفارة كوريا الشمالية حتى مغادرة الرفيق السفير بلاد الرفاق السوفييت مصحوباً بالسلامة إلى أرض الوطن العزيز الغالي سورية الأسد كما كانوا يسمونها وقتها.
قضى الرفيق السفير اليومين بصحبة ابنه في بلد الاشتراكية الأول المحب للسلام والصديق الوفي لقطرنا الصامد، وحمل حقائبه وغادر باتجاه المطار، وهذه المرة لم يقلق على التمثال، فقد طمأنه الرفاق في سفارة كوريا الشمالية عبر وضع أيديهم على قلوبهم والإشارة إلى ساعاتهم التي تحمل كلها صورة الرفيق كيم إيل سونغ أنهم يعرفون موعد مغادرته بالضبط وسيكونون بانتظاره، وفعلاً كانوا بانتظاره، وسرّ لعدم وجود الرفيقين اللذين رافقاه في رحلته حتى موسكو وهما يحملان التمثال، ولوجود غيرهما من طاقم السفارة يقومان بمهمة حمل التمثال، وقال في سرّه الآن انتهت الرحلة وسأحصل على التمثال وأحمله وحدي، ولكنه وقبل أن يصل إلى حالة الابتسامة التي تظهر على الوجه عند مرور فكرة سعيدة في الرأس تكرر ما حدث معه في كوريا بالحرف، أشار له الرفاق في السفارة الكورية إلى الممر المؤدي إلى الطائرة، ورافقه الرفيقان الكوريان الجديدان اللذان كانا يحملان التمثال، وجلسا في المقعدين الملاصقين له، وبنفس الوضعية احتضنا التمثال بين القفص الصدري والترقوة، مع بعض الزيحان باتجاه المعدة بسبب المطبات الجوية التي مرت بها الطائرة.
في مطار دمشق كان وفد السفارة الكورية بانتظار تمثال الرفيق كيم إيل سونغ ومرافقيه والرفيق السفير السوري الذي أنهى مهامه لدى جمهورية كوريا الشمالية الديمقراطية الشعبية باسمها الطويل الذي لم تكن تنافسها فيه سوى جماهيرية الأخ العقيد معمر القذافي قائد ثورة الفاتح فقط، ولم يكن حينها قد أصبح ملك ملوك أفريقيا، وكان الرفيق السفير ياسر الفرا مطمئناً إلى نهاية مشواره الطويل مع تمثال الرفيق كيم، وأنه أخيراً سيحصل عليه ويحمله إلى بيته، منهياً صراعه الطويل مع القلق، لكن الشاعر العربي ابن الكلب الذي قال "ما كل ما يتمناه المرء يدركه/ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" كأنه قاله عن قصة الرفيق ياسر الفرا مع تمثال الرفيق كيم إيل سونغ بالتحديد، فبعد أخذ ورد بين الرفيق السفير والرفاق من السفارة الكورية في سورية ومترجمهم الذي لا يستطيع إكمال أي حرف عربي إلى نهايته، فيصبح فهم الكورية أكثر سهولة من فهم عربيته، ذهب تمثال الرفيق كيم إلى السفارة الكورية ليبيت ليلته، على أن يُحمل في اليوم الثاني إلى بيت الرفيق ياسر الفرا الذي لم يعد سفيراً لسورية في كوريا، بعد أن حصلوا على العنوان الكامل وأرقام التلفونات.
ولم يكذب الرفاق في السفارة الكورية خبراً وجاؤوا في اليوم التالي إلى بيت الرفيق ياسر إنما بدون التمثال، ورفضوا شرب القهوة حتى لا يكتب كل منهم تقريراً بالآخرين إلى جهاز المخابرات الكورية بأنهم تلقوا رشوة، وحتى رفضوا الجلوس معللين ذلك للرفيق ياسر بأنهم في مهمة رسمية ، باغتوه بالسؤال عن أي ركن من أركان البيت اختاره لوضع تمثال الرفيق كيم إيل سونغ، وبعد أن نظر حوله محتاراً أشار عفو الخاطر إلى زاوية في صالونه وقال: هنا، وهو لا يزال متعجباً، وعند هذه اللحظة اقتربوا برؤوسهم من بعضهم البعض، وتهامسوا وتشاوروا ووتوتوا وعيونهم تدور في أرجاء الصالون، ثم التفتوا جميعاً إلى الرفيق ياسر وأشاروا إلى ركن آخر في الصالون غير الذي اختاره قائلين بصوت واحد: بل هنا، ثم مضوا وسط دهشة الرفيق ياسر، الذي لو كان لديه شعر على رأسه لنتّفه في تلك الحظة من حنقه على اللحظة التي طلب فيها التمثال، ولكن لحسن حظه كان أصلع نهائياً.
مضى أسبوع على الحادثة ولم يتصل أي كوري شمالي لا في سورية ولا في العالم بالرفيق ياسر الفرا، ورغم أن الفأر لعب في عبه، إلاّ أن طول المدة جعله يستسلم إلى فكرة مريحة مرّت برأسه، حين ظن بأنهم صرفوا النظر عن التمثال، أو أن البيت لم يعجبهم، ووجدوه أقل من أن يوضع فيه تمثال للزعيم العظيم الرفيق كيم إيل سونغ، وفي اللحظة التي غابت عن رأسه فيها قصة التمثال رن جرس التلفون في بيته، وكان المتحدث على الطرف الآخر مترجم السفارة الكورية الذي يحمله وفد السفارة معه أينما ذهب كما لو أنه صندوق العدّة أو فرد التبخيش، وأخبر المترجم الرفيق ياسر بأنهم قادمون غداً في العاشرة صباحاً.
وهذا ما حدث فعلاً، وسط دهشة الرفيق ياسر وصمته التام جاء وفد السفارة الكورية برئاسة القنصل وبعضوية كافة الموظفين، ومعهم ورشة رخام، وبدؤوا بتركيب قاعدة للتمثال من الرخام كانوا قد صنعوها مسبقاً، وسط نظرات الإجلال، وبعض شروحات المترجم غير المفهومة التي لا تختلف من حيث نوعية الصوت عن أصوات شواكيش ومفكات عمال ورشة الرخام، ثم وبعد أن انتهوا من تركيب القاعدة وملامستها وتأملها والتأكد من جماليتها ومتانتها ، وهزوا رؤوسهم توافقاً على ذلك، أجرى القنصل اتصالاً باللغة الكورية، بدا من الطريقة التي تحدث فيها أنه يجيب على أسئلة وعينه لا تفارق القاعدة الرخامية للتمثال، جاء بعده بقليل السفير الكوري والملحقين الثقافي والاقتصادي والعسكري وهم يحملون تمثال الرفيق كيم إيل سونغ، ومن دون أن يتركوه ساعدوا عمال ورشة الرخام في تثبيته، بعد أن تأكدوا من أن العمال نظفوا أيديهم جيداً بالماء والصابون، ثم أدوا جميعاً التحية للتمثال وسط جو من المهابة والجلال إلى الدرجة التي أبكت السفير ياسر الفرا وهو يعانقهم مودعاً وشاكراً، ولأول مرّة يشعر بالارتياح وهو يغلق خلفهم الباب فقد ظن وقتها أنه انتهى من قصة تمثال الرفيق كيم إيل سونغ وما رافقها من ألم ومعاناة وشقاء إلى الأبد!!
لكن الشاعر العربي الذي استقصد الرفيق ياسر الفرا ببيته السالف الذكر أصر أن تجري الرياح هذه المرة أيضاً وإلى الأبد بما لا تشتهي السفن، فمنذ أن وجد تمثال الرفيق كيم إيل سونغ مكاناً له في بيت الرفيق ياسر الفرا، وتلفونات السفارة الكورية لا تتوقف إلى بيت الرفيق ياسر اطمئناناً على التمثال، ولم يزر وفد من كوريا الشمالية سورية لأي سبب من الأسباب وفي أي اختصاص كان، إلاّ وكانت زيارة تمثال الرفيق كيم إيل سونغ في بيت الرفيق ياسر على رأس برنامج الزيارة، ولم تمر مناسبة للاحتفال بالثورة الكورية الشمالية، أو بعيد ميلاد الرفيق كيم، أو بعيد العمال أو بأعياد المرأة والطلبة والفلاح وسائق الباص، أو أي مناسبة يجري فيها احتفال في كوريا الشمالية، إلاّ وجاء كل الكوريين المتواجدين على الأراضي السورية إلى بيت الرفيق ياسر الفرا للاحتفال بهذه المناسبات، والانحناء تحيةً وتبجيلاً للرفيق العظيم كيم إيل سونغ!!