العرب وأثمان الحرية

مسيرة التحرر والتحرير بطبيعتها باهظة ، وهي في المنطقة العربية مضاعفة الكلفة لاعتبارات حضارية وجيواستراتيجية غير خافية ، ولهذا ما كان العالم ليسمح في أي بقعة من الأرض أن يتم فيها ما حدث من أنهار الدماء وركام التدمير في هذه المنطقة

عربي بوست
تم النشر: 2015/08/04 الساعة 14:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/08/04 الساعة 14:22 بتوقيت غرينتش

يبدو أن القدر أنْ تتحمل الشعوب العربية كلفة باهظة في سبيل تحقيق أشواقها في التحرر واستكمال التحرير. الحرية جزء من طبيعة الإنسان وفطرته، ولذلك يتعلق بها البشر ويتشوّفون لها على اختلاف مشاربهم وأجناسهم، وفي هذه المنطقة من العالم (البلاد العربية) تمثل الحرية إلى جانب بعدها الإنساني العام قيمة مركزية أصيلة ضمن منظومة القيم الدينية والحضارية التي تشكل وعي الناس ووجدانهم ورؤيتهم للكون والحياة.

معركة التحرر والتحرير في العصر الحديث بهذه المنطقة، بدأت بشكل مبكر، حيث هتف المفكرون والمصلحون لاستعادة الحرية المسلوبة، والتحرر من الاستبداد بمختلف صوره وتجلياته، وكان عبد الرحمن الكواكبي(ت 1902م)، أعلاهم هتافا وأفصحهم قولا وأبلغهم أثرا، حيث سطر كتابه ذائع الصيت "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، فنبه باكرا لغوائل داء الاستبداد، ودعا للحرية التي اعتبرها عالم المقاصد التونسي الطاهر بن عاشور المقصد السادس من المقاصد العامة للإسلام، ثم جاء الغزو الاستعماري للبلاد العربية فتم الانشغال عن مسار التحرر من الاستبداد بالتصدي للغزو وما يمثله من تهديد لحاضر هذه البلدان ومستقبلها، فانصرف الجهد الفكري والتعبوي النخبوي والجماهيري إلى قضية التحرير واستنفار الطاقة الكامنة للأمة من أجل طرد الغاصب الأجنبي واستعادة السيادة على الأرض ، ليُرغم المستعمر الغازي على الرحيل، لكنه استخلف في دهاء خبيث المستعمر الوطني على حد تعبير شاعر اليمن الكبير الباردوني.

في معركة التحرير، دفعت الشعوب العربية أثمانا باهظة من أجل الخلاص من المستعمر الأجنبي، وهي التضحيات التي جعلت من هذه الشعوب منارا للتحرير في نظر العديد من شعوب العالم الثالث التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار، ففي الجزائر دفع الشعب أغلى الأثمان في مسيرة التحرر من الاستعمار، وعبْر تضحيات استمرت قرنا وثلث القرن قتلت فيها أعداد مهولة من الشهداء، ودمرت المدن والقرى والمزارع وارتكب من المجازر والفظائع ما ضاقت عن حصره بطون الكتب، وهل يمكن لذاكرة التاريخ أن تنسى مجازر "اسطيف" و"قالمة" يوم 08 مايو1945م التي قتل فيها 45 ألف شخص على يد القوات الجوية والبرية الفرنسية، أو مجازر "سكيكدة" 20 اغسطس 1955م ، أو فظائع "القصبة" بالجزائر العاصمة.
وهل يمكن للتاريخ أن يغفل عن تضحيات المغاربة، وبطولات الخطابي في "انوال" الخالدة في 21 يوليو 1921م ، والتي انتقمت لها اسبانيا بدعم فرنسي أمريكي بقذف تجمعات سكان الريف بالمواد السامة وغاز الخردل عام 1924، في أول استخدام كمياوي ضد شعب ينشد تحرير أرضه.

وماذا نقول عن ليبيا التي واجه شعبها آخر صيحات جنون الفاشية الإيطالية بتضحية وصبر عز نظيره، حيث قتل الناس وحشروا في المحتشدات الصحراوية، هل يمكن أن ننسى ما حدث يوم 16سبتمبر 1931م عندما حشدت إيطاليا 20 ألفا من الشعب، يتقدمهم السجناء من الأعيان والمقاومين، ليحضروا مشهد تنفيذ الحكم بالإعدام شنقا في حق أيقونة المقاومة الليبية السبعيني – يومها- الشهيد عمر المختار الذي واجه وقاحة الفاشية بثبات أسطوري صفق له التاريخ وملأ أسماع الزمن.

وفي مصر تاريخ حافل بالتضحيات في سبيل التحرر، منذ الاستعمار الفرنسي في نهاية القرن 18 ، ووصولا إلى ثورة 1919م التي كانت مصدر إلهام للزعيم غاندي في الهند، مرورا بالمقاومة البطولية ضد الانكليز في مدن القناة عام 1951م ، وفي سوريا التي ارتكب فيها الاستعمار الفرنسي فظائع وحشية بلغت ذروتها في دك دمشق على رؤوس ساكنيها مرتين 1925م و1945م من أجل إسكات الحراك الشعبي المطالب بالاستقلال والتحرر، وهي المجازر التي هزت العالم العربي وخلدها كبار الشعراء مثل أحمد شوقي.

سلام من صبا بردى أرق ** ودمع لايكفكف يادمشق

ومع حصول الاستقلال المجازي واصلت الشعوب دفع أثمان الحرية في سبيل التحرر من المستعمر الوطني ، فقد سجل المجال العربي أعلى معدلات البطش بدعاة التحرر السياسي المناوئين للاستبداد على المستوى العالمي، سواء من حيث الامتداد الزمني لمعاناتهم، أو حجم وأعداد من طالهم السجن والاعتقال والقتل والسحل، حيث ملئت السجون والمعتقلات بالأحرار من المثفقين والعلماء والكتاب والأدباء والشباب المناضل، ومن نجا من مصير السجن والقتل فلن ينجو من غوائل المحاصرة والتجويع والتضييق، مما اضطر عشرات الآلاف بل مئات الآلاف إلى الهجرة القسرية عن البلاد العربية و الاستقرار في مواطن اللجوء في المنافي الأوربية والعالمية ..

ثم هبت نسائم الربيع المختمر منذ آماد، وثارت الشعوب، ووصلت ما انقطع من بلاءات الرواد الأوائل من المناضلين الشرفاء والمثقفين الأحرار الذين سبقوها في كشف عوار الاستبداد والتصدى لآثاره المدمرة، وتواطئه مع المستعمر الغازي. لقد اقتلعت موجات الربيع عروش الطغاة الجبابرة وقوضت نظما استبدادية ظنها البعض قدرا مقدورا. كما فتح الربيع العربي عيون الجماهير الثائرة على الآفاق الرحبة للحرية ومشاريعها المفتوحة والممتدة بما تحمل من فضائل التحرر وبشائر استكمال التحرير، وهي الآفاق والمشاريع التي استفزت وأرعبت تحالف المستعمريْن الوطني والغازي ففتحا معها معركة كسر عظم على نحو غير مسبوق في تاريخ العالم الحديث. ومن زحمة الأحداث المتلاحقة بألقها وفواجعها تبرز صور هنا وهناك جديرة بالتسجيل والتأمل، فمن كان يتصور أن هذه الشعوب التي خضعت لأبشع صور الاستبداد والفساد – و كان التقدير السائد أن عملية تحويلها إلى دواجن قد نجحت بالفعل- تستطيع أن تُخرج للعالم كل هذا التصميم والثبات الأسطوري – رغم فداحة الثمن- من أجل انتزاع الحرية وتقويض الاستبداد وامتلاك مصيرها بنفسها بعيدا عن أي وصاية ، وفي المقابل من كان يظن أن المستعمر الوطني مع مليشياته وحلفائه يبلغ من الوقاحة والوحشية حد ارتكاب كل هذه المجازر والمحارق، وتهجير الملايين وتدمير مدن ضاربة في التاريخ والحضارة مثل حلب وحمص وعدن ومصراتة، من دون أن يأرق له جفن.

مسيرة التحرر والتحرير بطبيعتها باهظة ، وهي في المنطقة العربية مضاعفة الكلفة لاعتبارات حضارية وجيواستراتيجية غير خافية ، ولهذا ما كان العالم ليسمح في أي بقعة من الأرض أن يتم فيها ما حدث من أنهار الدماء وركام التدمير في هذه المنطقة ، ورغم آلام المخاض الكبير فإن هذه التضحيات العربية الجسام من أجل التحرر والتحرير ستكون لها نتائج عظيمة وسيمتد تأثيرها إلى نطاقات واسعة وستساهم بنصيب وافر في رسم ملامح المنطقة والعالم في المستقبل المنظور.

وللحرية الحمراء بابٌ
بكل يد مضرّجةٍ يدقُّ.

علامات:
تحميل المزيد