ماذا تعرف عن الثورة “الإسلامية” في البرازيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2015/08/02 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/08/02 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش

التحرر من العبودية .. قصة نضال على مرّ أزمان التاريخ البشري. صراعٌ لم يتوقف بين الذين يسعون لنيل حرّيتهم الذاتية في التحكم بأجسادهم وأنفاسهم فضلًا عن حياتهم، وبين الذين يسعون للحفاظ على نفوذ ملكيّاتهم. لقد كانت العبودية ذُروةَ التملّك الإقطاعي السائد في أزمانه، ورغم ذلك لم يغفل التاريخ تسجيل "بطُولات" الذين تمرّدوا على هذا السائد، والمُطالبين بالتحرر منه.

مثلًا، هُناك سبارتاكوس، العبد الروماني الثائر على "أسياده"، فيما عُرف بحرب العبيد الثالثة. وقبل سبارتاكوس، هُناك إيونوس، ثُمّ أثينيون، قائدي حربي العبيد الأولى والثانية. وفي زمنٍ قريبٍ نسبيًا، شهد سُكان القرن التاسع عشر فصلًا جديدًا من فصول قصة النضال نحو تحرر العبيد، التي خُتمت أخيرًا بقوانين ووثائق وإعلانات تحرير العبيد من الشرق إلى الغرب، شمالًا وجنوبًا؛ فصلٌ عُرف بـ"الثورة الإسلامية في البرازيل"!

البدايات: مخطوط "مُسَلّيَة الغريب" .. أو كيف عرفنا الحكاية!

عبر شخصٍ يُدعى عبدالرحمن بن عبدالله البغدادي الدمشقي، وهو بالإضافة إلى أنه كان عالمًا شرعيًا، فقد كان أديبًا ورحّالة. لا يُعلم الكثير عن سيرته، سوى ولادته في بغداد، ونشأته في دمشق، وبهما لُقّب. وأنّه وصل بترحاله إلى ريو دي جانيرو الواقعة في البرازيل الآن، وأنّ ذلك كان في عام 1866.

بدأ الأمر بزيارة البغدادي لعاصمة الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالعزيز الأوّل، واستقرّ هُناك للعمل كواعظ ديني، قبل أن يُعيّن إمامًا بالبحرية العُثمانية. الحقيقة أنّ السبب الذي جعل من البغدادي رحّالة، هو التحاقه بركب سفينتين عُثمانيتين كانتا متجهتين إلى البصرة في العراق، عبر الطريق التالي: من البحر المُتوسط إلى المحيط الأطلسي مرورًا برأس الرجاء الصالح إلى المُحيط الهندي ومنه إلى الخليج العربي فالبصرة. لكن ما حدث هو أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السُّفنُ!

في كِتابه "مُسَلية الغريب بكل أمرٍ عجيب"، يقول عبدالرحمن البغدادي: "طلبتُ المسير بإحديهما (إحدى السفينتين) قصدًا للسياحة والتّأمل بكل ساحة، إذ هي تزيد اليقين، ويتأكد بالنظر لعظمة القدير المُبين". حين وصلت السفينتان إلى المحيط الأطلسي هَبّت عاصفة حالت دون إكمالهما الطريق نحو رأس الرجاء الصالح، وانحرف مسارهما إلى الأمريكتين، حتى استقرتا في ريو دي جانيرو.

هُناك استقر البغدادي ولم يعد مع السفينتين، حينما التقى بالمسلمين الذين هُم من أصول إفريقية. وابتغى ببقائه تعليمهم الدين الإسلامي. "هُناك (ريو دي جانيرو) تركت البوابير (السّفن) لأجل تعليم المسلمين الذين بهذه البلاد مُقيمين، مُحتسبًا لوجه رب العالمين"؛ يقول البغدادي.

صفحتين من مخطوط "مسلية الغريب بكل أمر عجيب"

ورغم أنّ التأريخ لثورة العبيد المسلمين في البرازيل، سابقٌ على الزخم الذي اكتسبته مخطوطة البغدادي بعد ترجمتها إلى إعادة نشرها مُحققة على يد الشيخ خالد رزق تقيّ الدين، رئيس المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية في البرازيل، ومُؤلف كتاب "المسلمون في البرازيل"، الذي نشر فيه المخطوطة مُحققة .. رُغم ذلك، إلا أن المخطوط تظل مصدرًا هامًا لتأريخ الوجود الإسلامي بأمريكا اللاتينية، وكذا فيما يخص قضية ثورة العبيد المُسلمين هُناك، التي جاء ذكر طرف منها في المخطوط، في سياق الحديث عن أسباب إخفاء المُسلمين لدينهم آنذاك.

من جانبه، قال الشيخ خالد رزق تقيّ الدين، في تصريح خاص لنا، إنّ "قيمة المخطوطة تعود لكونها أوضحت فترةً هامة من تاريخ الإسلام والمُسلمين في البرازيل، فحين وصلتنا المخطوطة، استكملت حلقةً مفقودة من تاريخ المُسلمين في البرازيل".

أعطني بعض التفاصيل عن المسلمين الأفارقة في البرازيل!

منذ بدايات القرن السادس عشر بدأت البُرتغال – التي كانت تستعمر أراضي برازيليا أو البرازيل – في إحضار العبيد من مُستعمراتها وغيرها من المُستعمرات الأوروبية في إفريقيا؛ لاستصلاح الأراضي وزراعتها. وبحسب كتاب "المسلمون في أوروبا وأمريكا" لمُؤلفه عليّ بن المُنتصر الكِتّاني، فإن أعداد الأفارقة الذين تم بيعهم كعبيد لمستعمرات الأمريكتين، وبخاصة مُستعمرة برازيليا، قد بلغ رقمًا مليونيًا. فعلى سبيل المثال، استجلب من بنين وحدها نحو 3 ملايين شخص. وفي مُستعمرة برازيليا فاق عدد العبيد النصف مليون، جلبوا من إفريقيا خلال أقل من قرن!

من هُنا كان الحضور الأوّل للمسلمين من أصول إفريقية، في أمريكا اللاتينية، وتحديدًا بلاد البرازيل. ووفقًا لعدد كبير من المُؤرخين فقد استطاع هؤلاء المسلمون الأفارقة، رغم ظروف عبوديتهم؛ الحفاظ على شعائر دينهم، ويعود الفضل في ذلك، لوجود رجال دين بين الذين استجلبوا إلى هُناك.

حركة الماليين: كيف قامت الثورة الإسلامية في البرازيل، ولماذا؟

في الفصل الذي عنونه بـ"سبب تستر الإسلام من الخرستيان"، في مخطوطه "مسلية الغريب"، يقول البغدادي: "وكم مرّة سألتهم عن سبب هذا التستر الشديد، مع أنّ الدول أطلقت الحُريّة لكل شخص ما يُريد؛ فأخبروني أنّ حربًا وقعت بينهم وبين الخرستيان (المُلاك البيض)، وعَوّل السودان (العبيد الأفارقة) أن يملكوا منهم البُلدان، وكانت النصرة للنصارى. وقد تحقق عندهم جِهارًا أنّ أصل هذه الفتنة (الثورة) من جماعةٍ مُسلمين بين طوائف السودان".

في العقود الأولى من إحضار الأفارقة كعبيد إلى المُستعمرات الأوروبية في أمريكا اللاتينية، بدأت مجموعات منهم بالهروب إلى الغابات والأدغال، وكوّنوا بدورهم مُستعمرات خاصة بهم، أعادوا فيها إحياء تُراثهم المعيشي، وتقاليدهم الحياتية والدينية. أوّل مُستعمرات الغابات تلك، التي تم اكتشافها من قبل البُرتغاليين، كانت مُستعمرة باهيا، التي ضمّت مئات من الأفارقة العبيد الهاربين أغلبهم من أصول ماليّة (دولة مالي)، وكان ذلك في عام 1579.

هذا ويبدو أنّ التفاف العبيد الأفارقة حول الدين الإسلامي، في مُقابل مسيحية المُستعمر الأبيض، كانت من آليات تعزيز روح التمرّد بينهم، بخاصة وأنّ البرتغاليين سيّروا حملات عسكرية ضد ما كانوا يُسمّونه بـ"أحراش الزنوج" – في إشارة إلى المستعمرات التي أنشأها الأفارقة في غابات أمريكا – وكانت الحملات تحت مسميات وشعارات "طائفية"، كحملة "الصليب" التي استهدفت مجموعةً من تلك المُستعمرات كانت تحت قيادة جانجا زمبي.

وبالجملة، فقد خاض الأفارقة الأحرار – إن جاز لنا تسميتهم بذلك – حروبًا عديدة ضد البُرتغال في إطار الحفاظ على حُريّتهم ضمن مُستعمراتهم التي بنوها في الأدغال. وخرج من بينهم قادة سجّل التاريخ لهم دورًا كبيرًا في حركة نضال العبيد نحو التحرر، على رأسهم جانجا زومبي، الذي تقدّم ذكره.

تمثال لجانجا زومبي في العاصمة البرازيلية

تلك الحروب امتدت على مدى قرون، وصولًا إلى بدايات القرن التاسع عشر، حيث كان العالم يموج بتغيرات كبيرة على عدة مُستويات، ففي أوروبا مثلًا ثمّة ثورة صناعية، وصعود للبرجوازية الصناعية التي صحبت معها أفكارًا ليبرالية خاصة بتحرير العبيد. وفي أمريكا كذلك تشتعل ما بين الحين والآخر اشتباكات بين ذوي الأصول الإفريقية والبيض الذين اعتبروا أنفسهم السُكّان الأصليين.

كانت هناك مجموعة من المُحددات لمجتمع الأفارقة الأحرار هذا، بينها بالطبع العامل الاقتصادي، فهؤلاء في النهاية عبيد هاربون من ملاكهم إلى مُستعمرات بنوها بأنفسهم وسط الغابات. وهذا العامل كان جاذبًا لفقراء البيض لينضموا إليهم، وكذا لمن تبقّى من السُكّان الأصليين (الهنود الحُمر). عوامل أخرى أيضًا كان لها نصيب كبير من المساهمة، من بينها الأصول الثقافية، والتي يلعب الدين فيها دورًا كبيرًا. ومن هناك خرجت ثورة الماليين (نسبة إلى أصول أغلبهم المالية) المُسلمين في باهيا الساحلية، الواقعة شمالي شرقي البرازيل؛ بدايات القرن التاسع عشر.

بداية من عام 1803 بدأت الانتفاضات في السلفادور عاصمة باهيا، على مستوى محدود، حيث باءت أغلب مُحاولات التنظيم لحراك جامع كبير، بالفشل، بسبب المُخبرين المنتشرين وسط الأفارقة، الذين عملوا لصالح الشرطة البرازيلية، وأسهموا في إفشال أي تضخم لأي موجة غضب عارمة. وفي كل الأحوال، لم تأخذ تلك الانتفاضات سمةً جامعة. كانت أغلبها تنفيسًا عن الغضب المُتراكم إزاء سياسات التفرقة العُنصرية، فضلًا – بالطبع – عن العبودية.

لكن، ومنذ 1830 بدأ التجهيز لثورة بصفة إسلامية. نعم، كان الدين فارقًا في تشكيل بنية الثورة، من حيث إسهامه في جمع شتات الأفارقة المُسلمين أو من أصول مُسلمة، من مُختلف القَبَليات والعرقيات اللُغوية (نسبةً إلى انتمائهم اللغوي، حيث تفرقت المجموعات الإفريقية بين من يتحدث بالفرنسية أو الإيطالية أو البرتغالية… إلخ).

وقد كانت طليعة الثورة مُكوّنة من رجال دين مسلمين، من أبرزهم الشيخ دندرة وكان إمامًا وخطيبًا، بالإضافة إلى الشيخ سانيم، وكان مؤسس مدرسة لتعليم الإسلام. هذان وغيرهما، نظّموا للثورة في سرّية، كشفتها أعين وآذان المُخبرين.

تمّ التجهيز للانطلاق بالتظاهرات فجر يوم 25 يناير 1835، المُوافق 27 رمضان، وقد كان غرض قادة الثورة من اختيار فجر 27 رمضان موعدًا لانطلاق الثورة؛ إكساب ثورتهم زخمًا روحيًا دينيًا، على اعتبار أن 27 هو اليوم الذي تُوافق ليلته ليلة القدر، وفق أغلب الاحتمالات في الشريعة الإسلامية.

ما فرق بين ثورة باهيا تلك، والانتفاضات السابقة لها، اتسام الأخيرة بالتوجه نحو العُنف كخيار أساسيّ. لقد تسلّح الأفارقة، واتخذوا من المساجد مراكز انطلاق. لكنّ الشرطة البرازيلية، استطاعت توجيه ضربة استباقية لبعض تلك المراكز. من مناطق أُخرى استطاع الثُوّار الخروج فعلًا إلى الشوارع حاملين أسلحة بيضاء، في مُواجهة مئات من جنود الجيش.

أسفرت المواجهات الدامية عن مقتل نحو 100 إفريقي، في مُقابل 14 جُنديًا من الجيش البرازيلي، الذي استطاع إخماد الثورة نهائيًا. من جانبهم يرى باحثون ارتداد أثر تلك الثورة إلى أمريكا الشمالية التي قاد فيها لينكولن – بعد نحو 3 عقود – حربًا أهلية لتحقيق الوحدة، والدفاع عن مبادئه التي أنتجت إعلان تحرير العبيد.

تحميل المزيد