بذلة فضاء تقضي على الحزن للأبد

قد تكون فكرة غريبة أو غير واقعية، لكني أعتقد أن هذا طبع في الإنسان، مهما بلغ يأسه وأوشك على الفناء، لديه ذرة أمل، مثل هؤلاء الذين ملّوا من الكوكب ودعوا عليه باصطدام نيزك ضخم.

عربي بوست
تم النشر: 2015/07/31 الساعة 08:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/07/31 الساعة 08:53 بتوقيت غرينتش

منذ يومين أعلنت وكالة ناسا عن اكتشافها لكوكب مطابق للأرض، أطلقوا عليه اسم "كيبلر" أو "الأرض 2″، وفي نفس الوقت توفي والد أحد أصدقائي وذهبت للعزاء.

تهيأت قبل الذهاب لتقبل كل ما سأشهده من طاقة سلبية، أعدُّ نفسي جيدًا وفكرت أني سأذهب للتسوق بعدها لكي أنقي نفسي مما قد يعلق بها من كآبة، وأتيح لنفسي فرصة للتفكير في الكوكب الجديد.

في الطريق إلى هناك تذكرت فيلماً كنت قد شاهدته قبل فترة طويلة، اسمه "الأرض الأخرى Another Earth"، ويحكي قصة مشابهة لقصة اكتشاف كوكب أرض جديد. بطلة الفيلم رقيقة، مذنبة، ساذجة، ومستهترة، ارتكبت جريمة قتل بالخطأ، وبعد عقوبتها حاولت التكفير عن خطئها بمساعدة الرجل الذي قتلت زوجته وطفله، ووقعت في حبه.

كنت أفكر في هذه الرقيقة أثناء سيري في الشارع متجهة إلى العزاء، مشيت بسرعة إلى البناية الموجودة في شارع مظلم لا يمشي فيه أي كائن حيّ، وأثناء صعودي درجات السلم كنت أتفحص ملابسي الملونة في خجل، تمنيت لو أمتلك الوقت لأغيّرها، كما جمدت ملامح وجهي، استعدادًا للوقار والهيبة التي يفرضها الموت، لكي لا يصدر مني أي تعليق أو يفلت مني "إفيه" دون قصد، كما يحدث دائمًا!

2
قابلتني صديقتنا المشتركة أعلى الدرج، وكانت بملابس فاتحة وبإطلالتها المبتسمة المريحة دائمًا، استغربت من ابتسامتها، لكني عندما دخلت المنزل وجدت نساء من أعمار مختلفة، وجميعهن مبتسمات، بما فيهن زوجة الراحل- أم صديقي- كانت طيبة وبشوشة، ونهضت بخفة من مكانها لتصافحني وهي تبتسم وترحب بي في بيتها لأول مرة.

أخذت ركنًا في المنزل وتأملت، في المطبخ فتيات يجهزن القهوة الحلوة والمُرّة، وفي الصالة نساء مبتسمات بشوشات، ضحكات خافتة هنا وهناك، والجو العام مريح وهادئ لا يتماشى أبدًا مع ما عهدته من طقوس العزاء التقليدية، صراخ وسواد وعويل وإغماء وتمزيق ملابس وهرج ومرج!

للحظات نسيت أنني في عزاء، وعدت للفيلم. في مشهد بديع يجمع البطلة المذنبة مع حبيبها الذي لا يعرف أنها من دمرت حياته، سألته سؤالًا "هل تعرف قصة رائد الفضاء الروسي؟ أول رجل سافر إلى الفضاء، في سفينة كبيرة جدًا، لكن الجزء الذي جلس فيه كان صغيرًا جدًا، كان لديه نافذة مستديرة صغيرة يرى منها سطح كوكب الأرض، كأول رجل يرى سطح الكوكب الذي يعيش عليه، ثم فجأة سمع صوت نقر، نقرات متتالية منبعثة من لوح التحكم، حاول إيقافها، انتزاع اللوح، لكنه لم يستطع، بعد ساعات من النقر بدأ الشعور بالمعاناة، بعد أيام قليلة كان يعلم أن هذا الصوت سيحطمه، ما الذي يمكنه فعله؟ هو وحيد في الفضاء، بعد 25 يومًا كان على وشك الانهيار التام، قرر رائد الفضاء أن يقع في حب صوت النقر! وأغمض عينيه وانطلق في خياله، ولم يعد يسمع هذا الصوت المزعج ثانيةً! تحول الصوت إلى موسيقى! وأمضى وقته سعيدًا في الفضاء".

3
عادت صديقتي بالقهوة، بدأت مناقشة جانبية معها "هل هذا كل شيء؟ حقًا؟ لماذا الكل مبتسم هكذا؟! هل هم فرحون بموته؟!" استغرقت صديقتي في موجة ضحك قصيرة ولم تجب عليّ بسبب مقاطعة والدة صديقي، التي بدأت بالتعرف عليّ، مهنتي ومكان عملي، في الوقت الذي قامت فيه صديقتي لتجلب صورة للراحل، بدا فيها قويّ البنية، على عكس الشلل الكلي الذي اقتنص السنوات الأربع الأخيرة من حياته حتى أخذ حياته نفسها. بدأ الجميع بمقارنة التشابه بين الوالد وابنه، ثم أخرجت الأم صورًا أخرى، وانهالت التعليقات على لون العين، تقاسيم الوجه، الطول، واللون، تحول الجميع فجأة إلى جزء من لعبة استخراج الفروق، بدأت الضحكات تعلو، قلت لصديقتي "ناقص تورتة ويبقى عيد ميلاد!".

"كيف مات الحزن في القلوب؟ كيف يصبح هشًا ضعيفًا، قادرًا فقط على بضع دمعات في حدقة العين؟" كان هذا ما يشغل بالي بعد العزاء الغريب، وتوصلت إلى بعض الإجابات التي قد تكون منطقية. أولًا لأن الراحل كان كبيرًا في السن ومريض مرض لا شفاء منه، ولذلك فموته رحمة، وثانيًا لأن الأصل في العزاء أن تخفف عنهم حزنهم لا أن تزيده كما يفعل أغلبنا، وثالثًا وأخيرًا، لم يعد هناك طاقة للحزن ولا مساحة، وهناك نهم شديد ورغبة في اعتصار كل دقيقة حياة باقية، هناك احتفال بالنجاة قائم على مدار الساعة، لأن كل ما حكيت عنه سابقًا كان لسوريين!

4
كانت هذه المرة الأولى التي أحضر فيها عزاء لأسرة سورية، ولأني مصرية فالفرق كان واضحًا. نحن نصرخ، ونبكي بحرقة، ونمزق أنفسنا، ونهلك أرواحنا من الحزن، ونعتصر قلوبنا، ونلبس السواد لمدة لا تقل عن أربعين يومًا وتزيد إلى آخر العمر أحيانًا، مشترط بأن يكون لدينا شيء أو شخص عظيم نخسره فجأة. لكن ماذا لو اعتدت الخسارة؟ ماذا لو فقدت الشخص، ثم البيت، ثم الشارع، والأصدقاء، والذاكرة، والوطن؟ ما الذي بوسعك أن تبكيه؟ ما حجم خسارتك الجديدة مقارنة بالقديمة؟! أي خسارة ستوجعك بعدها! وأي ألم قد يهزّك وأزرق الكدمات ممتد في جسدك؟!

لا أقول بالطبع أن الأمر قاصر على السوريين – ومعهم كل الحق فيما يشعرون به- ولكن ما يحدث لهم، من تقبل الصدمات بهدوء بعد تواليها، واستيعاب نذالة الحياة وخسّتها، وانقلابها رأسًا على عقب بدون سبب منطقي، يشبه قطرة المطر التي تسقط على يدك، بعد سيول أغرقت البلاد. قد يكون حافزاً، لا لنتأقلم مع الخسارة، ولكن لنستفيد منها ونروّضها.

قد تكون فكرة غريبة أو غير واقعية، لكني أعتقد أن هذا طبع في الإنسان، مهما بلغ يأسه وأوشك على الفناء، لديه ذرة أمل، مثل هؤلاء الذين ملّوا من الكوكب ودعوا عليه باصطدام نيزك ضخم، وهم أول من هللوا للكوكب الجديد. إنه الأمل يا صديقي، الزئبق الذي لا يد لنا فيه، لا نستطيع كبته ولا قتله، كل ما علينا هو ألا ندع الحزن الكامن في الجينات يفترسنا، والواقع الحقير يحبسنا في دائرته، ليس علينا أن نتقبل الحزن ونتعايش معه، ولكن علينا أن نجتازه، نخطو فوقه، ربما بحياتنا الصعبة، وكسراتنا المتتالية، وخساراتنا الفادحة، وبالألم العميق الشرس الذي عضّنا مرّات، الذي يتحول مع الوقت إلى كائن أليف، نصبح أخيرًا أحرارًا… وسعداء!. يمكننا أن نقع في حب نقر الأمل المزعج بداخلنا، فالحياة تكون طيبة أحيانًا، وفي كل مرة تشعر بالحزن، اسأل نفسك "هل تتذكر قصة رائد الفضاء الروسي؟".

تحميل المزيد