عند مشاهدة مباريات منتخب الأرجنتين خلال كأس العالم قطر 2022، وبقدر ما تشدك مهارات القائد ليونيل ميسي ورفاقه ستتساءل حتماً لماذا لا يمتلك منتخب الأرجنتين في صفوفه لاعبين من ذوي البشرة السمراء، أسوة بالمنتخبات المشاركة في هذا الحدث الكروي العالمي، خصوصاً اللاتينية منها.
لكن هذه الملاحظة ليست جديدة، في عام 2014 تواجه المنتخبان الألماني والأرجنتيني في نهائي كأس العالم بالبرازيل، وهناك ألقي الضوء على تمثيل السود في نهائي كأس العالم، فقد كان هنالك لاعبٌ واحدٌ ألماني على الأقل من ذوي البشرة السمراء، بينما لم يكن في المنتخب الأرجنتيني أي لاعب أسود، وبينما ارتفعت نسبة تمثيل السود في المنتخب الألماني مونديال قطر 2022، بقيت الأرجنتين على حالها من دون تمثيل للسود في المنتخب الأوّل، فلماذا يغيب السود عن المنتخب الأرجنتيني؟
تاريخ السود في الأرجنتين
في عام 2010، أصدرت الحكومة الأرجنتينية إحصاءً أشار إلى أن 149ألفاً و493 مواطناً أرجنتينياً (أي أقل بكثير من 1٪ من البلاد)، كانوا من أصحاب البشرة السمراء والأصول الإفريقية، هذا يعني بالنسبة للكثيرين، أن هذه البيانات التي تحتوي على نسبة ضئيلة من الأفارقة تؤكد أن الأرجنتين كانت بالفعل دولة بيضاء عبر تاريخها، لكن ذلك لا يبدو صحيحاً، حسب العديد من الروايات الأرجنيتينة.
إذ إنّه حسب صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، كان ما يقرب من 200 ألف من العبيد الأفارقة -أي أكبر من نسبة السود سنة 2010- قد نزلوا على شواطئ ريو دي لا بلاتا خلال الفترة الاستعمارية للأرجنتين، وبحلول نهاية القرن الـ18، كان ثلث السكان في الأرجنتين من السود ذوي الأصول الإفريقية.
بحسب صحيفة washington post،وصل المستعبدون السود لأول مرة إلى الأرجنتين سنة 1585 قادمين من الجارة البرازيل، وبعد عشر سنوات من ذلك، تلقى تاجر برتغالي يدعى بيدرو جوميز رينيل رخصة لاستيراد 600 من عبيد إفريقيا سنوياً إلى بوينس آيرس، وهو ما يمثل بداية تجارة الرقيق المقننة في الأرجنتين والتي استمرت حتى عام 1835، بحيث وصل عدد العبيد السود والأفارقة في الأرجنتين زهاء 200 ألف مستعبد، معظمهم من إفريقيا أو من البرازيل.
ونظراً لأن بوينس آيرس ظلت مدينة صغيرة، فقد باع التجار غالبية المستعبدين إلى المناطق الداخلية من البلاد، مع توقف العبيد أولاً في مدينة قرطبة في طريقهم إلى بوتوسي أو مدن داخلية أخرى مثل مندوزا، كاتاماركا وخوخوي وسالتا من المدن الداخلية الأرجنتينية، فقد كان السود ينتشرون في كامل أرجاء الأرجنتين حينها.
كما توسعت تجارة الرقيق في الأرجنتين لتشمل كامل القارة الأمريكية الجنوبية مع امرأة تدعى ماريا قدمت من مكسيكو سيتي في عام 1609.
وهذا ما يعني في الواقع أنّ فكرة أنّ الأرجنتين كانت دولة لذوي البشرة بيضاء غير دقيق، كما أنها توحي بتاريخ طويل لمحو السود من أجل قلب تعريف هوية للبلد الأمريكي الجنوبي.
كيف اختفى غالبية السود من الأرجنتين؟
هنلك عدّة روايات تناقلها الباحثون في الأرجنتين، تبرّر غياب السود في البلاد، ترجع غالبيتها السبب في ذلك إلى عوامل كثيرة، فحسب ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، يرجع السبب الأوّل إلى الخسائر البشرية الفادحة على الخطوط الأمامية في الحروب التي راح ضحيتها السود، مثل مشاركتهم في حرب التحالف الثلاثي ضد باراغواي في ستينيات القرن الـ19، فقد كان الرجال السود يستخدمون "وقوداً للمدافع"؛ مما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى السود خلال الحروب طوال القرن التاسع عشر، كما قامت الجيوش الثورية بتجنيد العبيد للقتال في حروب استقلال الأرجنتين (1810-1819) ضد القوات الإسبانية، مع وعد بالحرية بعد الخدمة لمدة خمس سنوات.
أمّا السبب الثاني الذي يتناقله المؤرخون الأرجنتينيون فهو راجعٌ إلى وباء الحمى الصفراء الذي نجا منه الأرجنتينيون البيض إلى حد كبير والتي قضت على جزءٍ هامٍ من السود، إضافة إلى الهجرة الأوروبية التي أدت إلى تضخم عدد السكان البيض، فقد جاء 2.27 مليون إيطالي بين عامَي 1861 و 1914.
لكنّ السبب الأبرز في محو السود من الأرجنتين حسب الباحثين يعود إلى عمليات التطهير الممنهجة في أعراق السود التي خطط لها البيض من خلال ما يسمى بمخطط التبييض القسري للسود.
تقول روايةٌ نقلتها washingtonpost الأمريكية في تقرير آخر لها، إنه بسبب ارتفاع عدد القتلى من الرجال السود بسبب حروب القرن التاسع عشر، لم يكن أمام النساء السود في الأرجنتين سوى الزواج أو التعايش أو تكوين علاقات مع الرجال الأوروبيين، مما أدى إلى "اختفاء" السود.
إذ يُعتقد أن اختلاط الأجناس والأعراق على مدى عدة أجيال كان له أثره في اختفاء السود، بحيث خلق مجموعة سكانية أخف وزناً وأكثر بياضاً.
كان التبييض قانوناً وسياسة أثناء بناء الدولة الأرجنتينية باعتبارها جمهورية جديدة، لذلك حاولت الأرجنتين إنشاء مجتمع أبيض، لأن السواد حسبها كان مساوياً للماضي المستعبد والاستعماري.
من أجل ذلك، قامت الأرجنتين بإنهاء تجارة الرقيق في عام 1812، وسنّت قانون الرحم الحر في عام 1813، والذي من خلاله أجبرت النساء السود على الزواج من الرجال البيض، كما قامت بحظر العبودية رسمياً في عام 1853، على الرغم من وجودها في بوينس آيرس حتى عام 1861.
ركز قادة الأرجنتين على التحديث، متطلعين إلى أوروبا باعتبارها مهد الحضارة والتقدم، فقد كانوا يعتقدون أنه للوصول إلى مستوى ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، كان على الأرجنتين أن تقوم تهجير سكانها السود جسدياً وثقافياً.
وخلال فترة رئاسته للأرجنتين من 1868 إلى 1874، وضع دومينغو فاوستينو سارمينتو سياسات قمعية للقضاء على السود، بحيث ارتكب "إبادة جماعية سرية" قضت على السكان الأفرو-أرجنتينيين لدرجة أنه بحلول عام 1875، كان هناك القليل جداً من السود في الأرجنتين.
كما شجّع الفيلسوف والدبلوماسي السياسي خوان باوتيستا البردي، الذي اشتهر بقوله "احكم تسكن"، الهجرة الأوروبية البيضاء إلى البلاد، كما أيّد الرئيس الأرجنتيني خوستو خوسيه دي أوركويزا أفكار ألبيردي ودمجها في أول دستور للبلاد. بحيث نصّ التعديل رقم 25 في الدستور الأرجنتيني بوضوح على أن "الحكومة الفيدرالية يجب أن تعزز الهجرة الأوروبية."
لبَّى 4 ملايين مهاجر أوروبي دعوة الحكومة للهجرة بين عامَي 1860 و1914. ولا يزال هذا البند في دستور الأرجنتين حتى اليوم.
أمّا بالنسبة لما تبقى من سكان الأرجنتينيين السود والذين كانوا في البلاد قبل هذه بداية الهجرة الأوروبية الجماعية، فقد بدأ الكثيرون منهم في تحديد هوية البيض لأجيالهم القادمة عبر التزاوج القسري أو الاستقرار في فئات عرقية وإثنية أكثر غموضاً وضعها حكام الأرجنتين خلال القرن الـ19.
تضمنت هذه الفئات كلاً من الكريولو (أشخاص ينتمون إلى أصول إسبانية أو هندية أمريكية)، وموروشو (أشخاص بلون بني داكن)، وباردو (لون بني) وتريغوينو ( بلون القمح).
كانت هذه التسميات تصورهم في نهاية المطاف على أنهم "آخرون"، لكنها ساعدت أيضاً في فصلهم عن السواد حسب مخطط الحكومة الأرجنتينية.
حالياً بات يطلق مصطلح موروشو على الأشخاص الذين لديهم لون "تان"، كطريقة للتمييز بين الأشخاص غير البيض، ولعلّ أبرز الشخصيات التي كتبت التاريخ في الأرجنتين وكانت ممن يطلق عليهم موروشو، أسطورة كرة القدم دييجو مارادونا، الذي برز في الثمانينيات والتسعينيات ويعدّ أفضل من داعب كرة القدم في التاريخ.
ورغم الروايات العديدة التي تفسّر غياب السود في المجتمع الأرجنتيني، إلّا أنّ تلك التفسيرات تبقى غير أكيدة، خصوصاً أنّ المجتمع الأرجنتيني اليوم يحتوي على السود بما معدله أزيد من 1% من الأرجنتينيين.