السياسة في المونديال| حين واجهت تشيلي “منتخب الشبح” وتأهلت إلى كأس العالم 1974

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/08 الساعة 16:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/08 الساعة 18:41 بتوقيت غرينتش
هدف كارلوس كاسيلي التاريخي/ مواقع التواصل

الزمان: نوفمبر/تشرين الثاني 1973.

المكان: ملعب "استاديو ناسيونال" في العاصمة التشيلية سانتياغو.

والحدث هو لقاء العودة في الدور الفاصل لتصفيات كأس العالم 1974، بين منتخب التشيلي ونظيره السوفييتي.

مدرجات الملعب ملأها حوالي 18 ألف متفرج، جميعهم من أنصار المنتخب المُضيف، وقد حضروا لتشجيعه ودعمه من أجل الظفر ببطاقة التأهل إلى نهائيات مونديال ألمانيا الغربية 1974.

مباشرةً بعد إطلاق صفارة البداية من حكم اللقاء، النمساوي أريخ لينماير، عمّ السكون في أرجاء الملعب. اللاعب التشيلي رينو يمرّر الكرة لزميله أهيرمادا، الذي يمنحها لكاسيلي الذي يقدمها بدوره إلى قائد الفريق فالديس، فيسددها نحو مرمى المنتخب المنافس.. إنه الهدف، هدف تأهل التشيلي إلى نهائيات مونديال 1974.

أغرب ما في هذا الهدف الحاسم أنه سُجّل في شباكٍ فارغة، وفي ظلّ غيابٍ كُلّي للاعبي منتخب الاتحاد السوفييتي، الذي لم يحضر أساساً إلى سانتياغو لمواجهة خصمه التشيلي في مباراة الإياب. فماذا حصل؟ 

صيغة جديدة لتصفيات كأس العالم 1974 

اعتمد الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) صيغة جديدة لمرحلة التصفيات في كأس العالم 1974. فقد تم تقسيم منتخبات قارة أوروبا إلى 9 مجموعات، يتأهل منها الأول عن كل مجموعة، باستثناء الفوج التاسع الذي يضطرّ متصدره لخوض مواجهة فاصلة أمام منتخب من قارة أمريكا الجنوبية، لكسب بطاقة التأهل لنهائيات كأس العالم 1974.

وصودف أن كان منتخب الاتحاد السوفييتي متصدراً المجموعة الأوروبية التاسعة، بعد تفوقه على منتخبَي جمهورية أيرلندا وفرنسا. فاضطرّ إلى مواجهة تشيلي الذي كان قد تصدر من جهته المجموعة الثالثة في أمريكا الجنوبية، أمام منتخب البيرو، في حين انسحب المنتخب الفنزويلي من المسابقة لأسبابٍ خاصة.

ولم تكن المواجهة بين تشيلي والاتحاد السوفييتي رياضية أبداً، بل سياسية بامتياز، انسحب منها الأخير في مباراة الإياب لتتأهل تشيلي إلى النهائيات. 

انقلاب عسكري في تشيلي قبل المباراة 

في 11 سبتمبر/أيلول 1973، أسقطت القوات المسلحة التشيلية -بقيادة أوغستو بينوشيه– رئيس البلاد سلفادور أليندي، بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية التي أرادت الإطاحة بالرئيس السابق المقرّب من الاتحاد السوفييتي وصاحب الميول الماركسية. 

تولى بينوشيه رئاسة البلاد؛ ومثل أي انقلابٍ عسكري، بدأ أيامه الأولى في الحكم باعتقال رموز المعارضة والزجّ بهم في السجون، حتى وصل عددهم في أول أسبوعٍ له إلى 40 ألفاً، أغلبهم في سجن "سانتياغو" الوطني.

أغوستو بينوشيه/ وكيبيديا
أغوستو بينوشيه/ وكيبيديا

كان ذلك الانقلاب العسكري بداية لحكم ديكتاتوري برئاسة بينوشيه استمرّ 17 سنة، وكان أيضاً بمثابة نقطة تحول كبيرة في تاريخ تشيلي. فقد انتقلت البلاد من المعسكر الاشتراكي إلى المعسكر الغربي، الموالي للولايات المتحدة الأمريكية.

لما حدث الانقلاب العسكري، كان منتخب تشيلي يستعد للمواجهة الحاسمة مع نظيره السوفييتي، والتي كانت مقررة في 26 سبتمبر/أيلول 1973، بعد أسبوعين فقط من التغيير البارز الذي طرأ على سدة حكم الدولة الجنوب أمريكية.

ووفقاً لما ذكره موقع Le Corner الفرنسي، فقد اتخذت الطُغمة العسكرية الحاكمة قراراً بمنع الرحلات نحو أوروبا، ما يعني استحالة سفر بعثة المنتخب التشيلي إلى العاصمة السوفييتية موسكو.

لكن طبيب المنتخب، الدكتور هيلو، تدخل. كان هيلو أيضاً الطبيب الخاص للجنرال غوستافو ليغ، أحد قادة الانقلاب العسكري، وقد نجح في إقناعه بأهمية تلك المواجهة الرياضية وكيف يُمكنها أن تحسّن صورة النظام الجديد للبلاد.

تزامنت تلك المباراة المفصلية مع قطع الاتحاد السوفييتي لكل علاقاته الدبلوماسية مع تشيلي، تنديداً بالانقلاب العسكري، ما جعل بعثة المنتخب التشيلي تتوجه إلى موسكو في خضم الحرب الباردة وتوتر العلاقات السياسية بين البلدين.

استقبال البعثة الرياضية التشيلية كان بارداً عند وصولها إلى الاتحاد السوفييتي، وأُقيمت المباراة أمام 60 ألف متفرج على أرض ملعب "لينين" في موسكو، وانتهت بالتعادل السلبي (0-0). وهو ما اعتُبر بمثابة إنجازٍ وطني كبير لتشيلي، بانتظار حسم التأهل إلى نهائيات كأس العالم 1974، في لقاء الإياب.

ولكن منتخب الاتحاد السوفييتي رفض خوض مباراة العودة بسانتياغو، تنديداً بعمليات القمع الوحشية التي قام بها نظام بينوشيه تجاه المعارضين، للإطاحة بالرئيس سالفادور أليندي.

ملعب المباراة كان مركزاً لتعذيب المعتقلين السياسيين 

بعد انقلابه على الحكم المدني، حلّ المجلس العسكري البرلمان مباشرةً وحظر نشاط جميع الأحزاب المتحالفة مع أليندي، في عملية استباقية للقضاء على أي شكل من أشكال التمرّد على النظام الجديد.

وبهدف قمع المعارضين السياسيين، احتاج المجلس العسكري التشيلي إلى مراكز اعتقال بمساحات كبيرة، في ظلّ امتلاء سجون البلاد. فلجأ الجنرال بينوشيه إلى استغلال القواعد العسكرية وصالات الألعاب الرياضية وملاعب كرة القدم. 

وكان أبرزها الملعب الوطني "ايستاديو ناسيونال" الشهير، الذي احتضن نهائي كأس العالم 1962 بين البرازيل وتشيكوسلوفاكيا، والذي تمّ تحويله إلى سجنٍ حقيقي في الهواء الطلق.

غرف تغيير الملابس صارت زنزانات، واستُخدمت أرضية الملعب لاستجواب المعتقلين وتعذيبهم، كما تحدثت بعض المصادر عن العديد من عمليات الإعدام في المنصة الشرقية لمدرجات الملعب.

وبحسب الموقع الرياضي الفرنسي ذاته، فقد تمّ استجواب ما يقرب من 40 ألف معتقل سياسي، إضافةً إلى احتجاز حوالي 12 ألفاً على أرض "استاديو ناسيونال"، ما بين 11 سبتمبر/أيلول و7 نوفمبر/تشرين الثاني 1973.

كل ذلك كان يتمّ على وقع وسيقى البيتلز ورولينغ ستونز، التي كان يبثها الجيش التشيلي، لإخفاء صرخات ألم المعتقلين الذين تعرّضوا للتعذيب.

وصلت أصداء ما كان يجري على أرض "استاديو ناسيونال" إلى العالم كله، ما أعطى الاتحاد السوفييتي حجة لعدم حضوره مباراة الإياب. فخاطب الاتحاد الدولي لكرة القدم وعبّر عن رفضه خوض اللقاء على أرض الملعب، مطالباً بإقامته على أرضٍ حيادية في بلدٍ آخر من أمريكا اللاتينية.

 نقوش رسمها السجناء أثناء إقامتهم في الاستاد الوطني/ وكيبيديا<br>
نقوش رسمها السجناء أثناء إقامتهم في الاستاد الوطني/ وكيبيديا

هل تواطأ "فيفا" مع تشيلي ضد الاتحاد السوفييتي؟ 

رفض "فيفا" طلب الاتحاد السوفييتي لكرة القدم؛ ووفقاً لموقع Les Echos الفرنسي، فقد جاء في تقرير بعثة "فيفا" التي أُرسلت إلى سانتياغو لتقصّي الحقائق: "الحياة عادية، يوجد الكثير من السيارات والمارين، الناس يبدون سعداء والمحلات مفتوحة. أما ملعب ناسيونال فهو مجرد مركز للتوجيه".

وأمام تمسك الاتحاد الدولي لكرة القدم بإجراء المباراة في سانتياغو، رفض منتخب الاتحاد السوفييتي خوض اللقاء، ما يعني إقصاءه رسمياً من التأهل إلى كأس العالم 1974. 

وبالمقابل، وبحكم ضمان تأهل تشيلي إلى النهائيات، لم يرد بينوشيه تضييع هذه الفرصة للاحتفال بالإنجاز الكبير وتلميع صورته أمام الشعب. فقرر إجراء المباراة بشكلٍ عادي، ولو غاب المنافس.

فوجد منتخب تشيلي نفسه وحيداً فوق أرض ملعب ناسيونال، مع ثلاثي التحكيم النمساوي. استمع الحضور إلى النشيد الوطني قبل خوض تلك المباراة الغريبة، وهتفت الجماهير التشيلية لمنتخب بلدها، كما رقصت فرحاً بعد تسجيله الهدف في الشباك الفارغة، بعد 30 ثانية فقط من بداية اللقاء.

وفي ظلّ غياب المنتخب المنافس، أطلق الحكم الصافرة النهائية للقاء، وسط فرحةٍ عارمة من جمهور المنتخب التشيلي المنتشي بالتأهل إلى نهائيات كأس العالم 1974 في ألمانيا الغربية.

لم يدوّن "فيفا" فوز تشيلي بهدفٍ لصفر، بل انسحاب الاتحاد السوفييتي؛ أما مسجّل الهدف كارلوس كاسيلي، فقد اعترف بإحساسه بالعار جراء مشاركته في تلك التمثيلية. وقال، في تصريحاتٍ لاحقة: "كانت أبشع مباراة كرة قدم خضتها على الإطلاق. مسرح حقيقي للعبث".

تحميل المزيد