يواصل منتخب السنغال مغامرته الرائعة في بطولة كأس العالم قطر 2022، بعد نجاحه في الوصول إلى الدور الثاني، من خلال تحقيقه انتصارين متتاليين وضعه أمام منتخب إنجلترا في الدور الثمن النهائي.
وتعدّ هذه المرة هي الثانية التي تصعد فيها أسود التيرانغا إلى هذا الدور المتقدم من بطولة كأس العالم، فقد سبق أن قاد المدرب الفرنسي الراحل برونو ميتسو منتخب السنغال إلى الدور ربع النهائي في مونديال كوريا الجنوبية واليابان سنة 2002.
ويرجع الكثيرون عودة منتخب السنغال إلى الساحة الإفريقية والعالمية إلى المدرب الفرنسي ميتسو أثناء قيادته المنتخب في الفترة ما بين عامَي 2000 و 2002، والتي نجح من خلالها في إعادة الروح لأسود التيرانغا، وتصديرها بين الأجيال وصولاً إلى الجيل الحالي، خصوصاً أنّ المدرب السنغالي الحالي أليو سيسي كان قائداً لمنتخب السنغال في فترة المدرب ميتسو.
برونو ميتسو.. عامل البريد الذي لم ينجح في كرة القدم لاعباً
في صغره عمل برونو ميتسو ساعياً للبريد يتنقل بين جنبات قرية دونكيرك الفرنسية لتوزيع الرسائل والطرود كلّ صباح، قبل أن بتدريبات فرق الهواة، حيث لعب في منصب وسط ميدان هجومي، قبل أن يخوض تجربة احترافية غير مستقرة وناجحة في بعض الأندية لفترة امتدت 14 عاماً، مثّل خلالها أندية هازبروك، دنكيرك، أندرلخت، فالنسيان، ليل، نيس، روبيه، وأخيراً نادي بوفيه، الذي اعتزل في صفوفه عام 1987.
لم يكن برونو ميتسو لاعباً مميزاً، إذ إنّ أرقامه تشير إلى أنه سجل ثلاثة أهداف فقط في قرابة الـ60 مباراة لعبها مع نادي ليل، ولم يحقق الفرنسي أي إنجاز جدير بالذكر سوى قيادته لنادي بوفيه للصعود للدرجة الثانية، مما دفعه للاعتزال بعد أن عرض عليه النادي الأخير فكرة تدريب فريق الشباب ثم الفريق الأول.
نجح برونو ميتسو في قيادة نادي بوفيه للشباب إلى الفوز بكأس فرنسا للشباب، بجانب وصوله لربع نهائي الكأس الفرنسية مع الفريق الأول لبوفيه في أوّل تجربة تدريبية له.
لفتت نجاحات ميتسو تلك انتباه نادي ليل الفرنسي، الذي تعاقد مع ميتسو لقيادة ناديه في عام 1992، وكان حينها ميتسو يبلغ من العمر 39 سنة فقط.
لكن ميتسو وجد فريقاً منهكاً وبالكاد نجح في تحقيق أوّلاً فوز معه، قبل أن يقيله النادي دون اكثرات للجهود التي بذلها والروابط القوية التي شكلها في غرف ملابس النادي.
بعدها تم تعيينه مدرباً لنادي فالنسيان الفرنسي، من سوء حظ ميتسو أنّ النادي كان يعيش أحلك مرحلة في تاريخه، مباشرة بعد سقوطه إلى الدرجة الثانية، واكتشاف أن بعض لاعبيه قد قبلوا رشاوى لبيع مباراة فريقهم ضد نادي مرسيليا.
في السنغال وجد برونو ميتسو النجاح الذي فقده في فرنسا
استمر ميتسو مع فالنسيان لمدة عام واحدٍ، قبل أن يقرر أنّ الوقت قد حان للمغادرة باتجاه القارة السمراء، ففي مقابلة صحفية عام 2011، قال ميتسو: "في ذلك الوقت شعرت أن لدي الكثير من كرة القدم، لكن اللاعبين الأفارقة أعادوا تنشيطي".
بدأت رحلة برونو ميتسو في الأدغال الإفريقية مع منتخب غينيا الذي أشرف عليه عام 2000، لكن الظروف الصعبة التي عايشها مع غينيا دفعته إلى تغيير الوجهة نحو منتخب إفريقي آخر.
هذه الظروف عبر عنها اللاعب الغيني السابق تيتي كامارا حين قال: "ميتسو اشتكى كثيراً من سوء الإمكانيات بغينيا كضعف البنية التحتية والخدمات الإدارية".
أثّر الفشل مع غينيا في نفسية ميتسو كثيراً، إذ قال عنه إنه كان يشعر أنه يمتلك الكثير لأقدمه لغينيا، لكن لاعبين خذلوه".
وبعد نهاية كأس أمم إفريقيا 2000، وخروج منتخب السنغال من الدور الربع النهائي أمام نيجيريا، تم الاستنجاد بميتسو لقيادة سفينة السنغال الغارقة.
مع منتخب السنغال كان برونو ميتسو مع موعد عالم الشهرة، وتغيير حياته للأبد، فقد بدأ على الفور مهمته التدريبية مع أسود التيرانغا من خلال تعزيز روح الفريق السنغالي، رغم إصدار الاتحاد السنغالي قائمة بأسماء لاعبين متهمين بالتراخي وضعف الروح وطلب من ميتسو عدم استدعائهم للمنتخب، إلّا أنّ المدرب الفرنسي نجح في خلق حافز حب الفريق بين اللاعبين وجعلهم يلعبون من أجل السنغال.
مستذكراً العديد من اللاعبين الذين لا يريدهم الاتحاد في المنتخب الوطني بسبب عدم الانضباط الملحوظ. لم ينشر قبضة حديدية. بدلاً نجح ميتسو في حشد اللاعبين حول الاعتقاد بأن بإمكانهم معاً تحقيق شيء مميز، ووضع التأهل لكأس العالم 2002 بكوريا الجنوبية واليابان هدفاً لهم.
برونو ميتسو يصل بمنتخب السنغال إلى العالمية
كان من الواضح أن رسائل ميتسو كانت تصل إلى نهايتها،عندما وصلت السنغال إلى كأس العالم 2002 لأول مرة في تاريخها، ثم نجاحها في ردّ الثأر من منتخب نيجيريا في كأس الأمم الإفريقية 2002 بمالي، والتي وصلوا فيها إلى النهائي لأوّل مرة في التاريخ أيضاً.
لم تكن تحفيزات ميتسو وحدها سبباً في النجاح الباهر لمنتخب السنغال حينها، فقد كانت خططه الفنية والتكتيكية السمة الأبرز في هذا التألق، لعب ميتسو خلال المونديال برسم تكتيكي يقترب من 4/3/3، يقوم على الدفع بثلاثي هجومي قوي وسريع ومهاري يصول ويجول بالمساحات وينتظر الكرات المرتدة.
في مونديال 2002 بكوريا الجنوبية واليابان، دخلت السنغال في المجموعة الأولى رفقة بطلة العالم فرنسا ومنتخب الأوروغواي والدنمارك، ومع أوّل مشاركة كانت حظوظ السنغال في التأهل غير واردة.
كانت المباراة الأولى ضد فرنسا في 31 مايو/أيار 2002، وبدا الفرنسيون واثقين تماماً من الفوز بسهولة في تلك المباراة، قال ميتسو في صباح يوم المباراة: "دعونا نرَ ما إذا كان بإمكان التلاميذ تعليم المعلم شيئاً أو شيئين".
في النهاية، فازت السنغال بنتيجة 1-0، سجله اللاعب السنغالي الراحل بوبا ديوب، وحتى مدرب المنتخب الفرنسي آنذاك، روجيه لومير، أشاد علناً بمواطنه برونو ميتسو وخطته في المباراة، كان فوز السنغال أمام فرنسا إحدى أكبر مفاجآت كأس العالم في التاريخ.
لم يكن الفوز على فرنسا مفاجئاً في الحقيقة، ففي المباراة التالية للسنغال تعادلوا مع الدنمارك 1-1، سجل ساليف دياو أحد أكثر الأهداف الكلاسيكية في ذلك المونديال عبر هجمة مرتدة، ثم تقدموا 3-0 في الشوط الأول ضد أوروغواي في مباراتهم الأخيرة بالمجموعة، لكنهم تراجعوا إلى الخلف لتنتهي المباراة بالتعادل 3-3.
نجحت السنغال بقيادة ميتسو في التأهل إلى الدور الثاني لأوّل مرة من أوّل مشاركة لها، بل إنها تصدرت مجموعتها الأولى، وأرسلت فرنسا بطلة العالم إلى بلاده مبكراً.
في الدور الثاني، واصل ميتسو سحره مع أسود التيرانغا، وصعق منتخب السويد 2-1، بفضل الهدف الذهبي في الوقت الإضافي من قبل هنري كامارا، ليواجه ميتسو منتخب تركيا في الدور الربع النهائي، حيث خسرت السنغال في الوقت الإضافي بهدف ذهبي لتركيا، وتخرج السنغال من البطولة في دور الثمانية كأحسن مشاركة لها حتى اللحظة.
اعتقد ميتسو أن كأس العالم بشَّرت بـ "فجر فريق عظيم" في السنغال يمكنه الاستمرار والسيطرة على الكرة الإفريقية على مدار سنوات، لكن في الواقع، انهارت كلّ جهود ميتسو بمجرّد قبوله عرضاً كبيراً للتدريب في الإمارات العربية المتحدة، حيث درّب نادي العين الإماراتي وحقق معه دوري أبطال آسيا سنة 2003، ثم المنتخب الإماراتي الذي حقق معه كأس الخليج سنة 2007، ثم منتخب قطر في الفترة ما بين 2008 و2011، ثم اختتم مسيرته التدريبية في الإمارات بتدريبه نادي الوصل الإماراتي خلفاً للمدرب المُقال حينها دييغو أرماندو مارادونا.
علاقة ميتسو مع السنغال كانت أكبر من كرة القدم
بالموازاة مع نجاحه مع منتخب السنغال، كانت قصة أخرى تنسج خيوطها في حياة برونو ميتسو، فقد أقام ميتسو علاقة مع السنغال أعمق من الرياضة، إذ تزوج من فتاة سنغالية تدعى فيفيان ندياي بعد رحلة حبّ وصفها ميتسو بالرائعة، ورزق منها بولدين.
كانت فيفيان ميتسو أحد الأسباب التي دفعت برونو ميتسو إلى تحويل ديانته من المسيحية إلى الإسلام، وتغيير اسمه إلى عبد الكريم.
قال ميتسو إنه "منذ عرفت الإسلام أيقنت شيئاً مهماً، هو أن شخصيتي منذ صغري تتفق في أشياء كثيرة مع مبادئ الدين الإسلامي، وفي مقدمتها حب الخير للجميع سواء كنت أعرفهم أم لا، ثانياً معاملة الناس بالحسنى، وأعتقد أنني كنت محظوظاً لاختيار الله لي لدخولي الإسلام، فهذا دليل على حبه لي، خاصة أن هناك أحاسيس غريبة لا أستطيع تفسيرها على الإطلاق، هي التي دفعتني لدخول هذا الدين، وعزز إيماني وجود الدين في بيتي حيث إن زوجتي مسلمة أيضاً".
كان ميتسو يعشق السنغال رغم قضائه لمعظم أوقاته في الشرق الأوسط، وحتى عندما باغته مرض السرطان قبل عام 2012، ونقل للعلاج إلى فرنسا، وكان يعلم أن حالته قد وصلت لمرحلة اليأس، أوصى زوجته السنغالية بأن يدفن بالسنغال لا في دونكيرك مسقط رأسه!
الطلب الغريب الذي أصرت عليه زوجته فيفيان عقب الوفاة عام 2013، لا يعكس سوى العلاقة الكبيرة التي ربطت ميتسو بالسنغال، البلد الذي خرج عن بكرة أبيه يستقبله كبطل متوّج سنة 2002، لأنه فقط وثق في قدرات لاعبيها.
في 21 أكتوبر/تشرين الأوّل 2013، وُري عبد الكريم ميتسو الثرى في العاصمة السنغالية داكار، بحيث أقيمت له جنازة رسمية حضرها الرئيس السنغالي ماكي سال رفقة أفراد حكومته، بينما تولى لاعبو منتخب السنغال في مونديال 2002 حمل نعشه إلى مثواه الأخير..