"أتمنى أن أنجب طفلاً، فأنا متزوجة منذ 5 سنوات ولم يرزقني الله بأولاد"، هكذا تحدثت شفيقة كمال، فتاة في العقد الثالث من عمرها، وهي تطوف 7 مرات حول المومياء المحنطة إيزادورا وتطلب منها المساعدة للإنجاب.
وبحسب ما رصد "عربي بوست" في رحلته إلى عاصمة الإنسانية بمصر، كيف تحولت المومياء الشهيرة عالمياً باسم "شهيدة الغرام"، ومنطقة تونة الجبل الأثرية بالكامل، لمزار شعبي يجذب إليه أهالي صعيد مصر؟
وتوجد منطقة تونة الجبل الأثرية بصحراء مركز ملوي التابع لمحافظة المنيا بصعيد مصر، وذلك بعد أن حاوطت الأساطير قصصها على مدار أكثر من 90 عاماً، منذ اكتشاف مقبرتها.
تونة الجبل.. عاصمة الإنسانية
منطقة تونة الجبل، والتي تعد عاصمة للإنسانية، حيث توحّد بين 3 حضارات -فرعونية ورومانية ويونانية- مع التراث المصري للتاريخ الحديث، توجد في وسط مصر حوالي 270 كم جنوب القاهرة و10 كم غرب مدينة الأشمونين القديمة.
ومنطقة تونة الجبل الأثرية تابعة لوزارة الآثار المصرية، وكانت تُسمي "مدينة الموتى"، والتي تكمل مع قرية الأشمونين المجاورة والمعروفة بـ"مدينة الأحياء"، أطلال مدينة "خمون" الفرعونية، والتي سماها الإغريق مدينة "هيرموبوليس".
وتعد منطقة مقابر ذات طابع معمارى جنائزي، يعود تاريخها إلى العصر الروماني، وقد أطلق عليها البعض عاصمة الإنسانية، حيث تجمع بين الحضارة الفرعونية والرومانية والإغريقية، ومصر المعاصرة، وآثار للأدب والفن.
الوصول إلى تلك المدينة ليس بالأمر السهل، فهي تقع في الجبل الغربي لوادي النيل، ويتطلب الوصول إليها سيارة خاصة، وفور وصولك إليها، تجد الأجواء الصحراوية قد طغت على المساحة الخضراء للأراضي الزراعية التي تشاهدها أثناء سيرك بالسيارة.
البوابة الرسمية للمنطقة الأثرية -هكذا يطلق عليها في مركز ملوي- هي فقط التي بها سور بتلك المنطقة، فيما كان في الخلفية البيوت الجنائزية -السمة العامة للمنطقة- ولا توجد حدود أخرى للمكان، فالمنطقة بأكملها محاطة بالرمال الناعمة.
المنطقة ذاتها بها 7 أماكن مميزة، أولها مقبرة مومياء إيزابورا، ومنطقة السراديب الخاصة بدفن طيور الأيبيس، وقرود البابون -وكلتاهما كانت ذات دلالة عقائدية لدى المصريين القدماء- ومقبرة الكاهن بيتوزيريس.
ثم تظهر الساقية الرومانية الشهيرة بالمنطقة، والتي كادت الرمال الناعمة تغطيها بالكامل، وهناك الجبانة اليونانية الرومانية وبها العديد من البيوت الجنائزية، وذلك مع علمين آخرين، هما استراحة عميد الأدب المصري طه حسين، واستراحة الأثري المصري الشهير سامي جبرة.
طواف التبرك
وفي الجمعة، كانت المنطقة تعج بالزوار المصريين من قرى صعيد مصر، وارتدى أغلبهم الجلباب الصعيدي، فيما كانت النساء ترتدي الملابس المحتشمة ذات الطابع الصعيدي، بالإضافة إلى وجود ملحوظ لأطفال يلعبون في المنطقة.
وعند التواصل مع القائمين على إدارة المنطقة، والموظفين العاملين بها، تجد أن معظمهم قد توارثوا العمل بالمنطقة عن آبائهم وأجدادهم، بل إن بعضهم كان أحد أجداده ضمن العمال الذين ساهموا في اكتشاف المنطقة في ثلاثينيات القرن العشرين.
"زمان كان معظم زوار المنطقة يأتون بهدف التبرك، حيث كان الطواف حول مومياء الست المحنطة، وما يعرف بالكحروتة، وهي التدحرج على الرمال الناعمة، عادات للنساء أو الرجال، ولأغراض مختلفة، سواء من كانت تبحث عن الإنجاب، أو من يتمنى الشفاء من الأمراض"، حسب ما قال مسؤول بالمنطقة لـ"عربي بوست".
وأضاف: "كانوا يصطحبون الأطفال معهم، والذين اعتبروا تلك الممارسات نوعاً من المرح، ومع الزمن كبر هؤلاء الأطفال، وارتبطوا بالمكان وأصبحوا يحرصون على زيارته واصطحاب أطفالهم معهم، ونظمت المدارس القريبة رحلات للمكان".
ويشير إلى أن منطقة تونة الجبل تحولت لمزار شعبي، واختلط الأمر ما بين تبرك، وما بين مكان للمرح والفسحة في الأعياد، ويأتي المجاذيب (أشخاص يهيمون في الشوارع) في أوقات متأخرة من الليل، ويطلبون مشاهدة "مقام الست المحنطة".
وحسب المسؤول في المنطقة فإن قصصاً مختلفة اشتهرت عن النساء اللواتي أنجبن بعد زيارة المكان، أو الأشخاص الذين عولجوا من الأمراض بعد التبرك بالكحروتة أو الطواف.
ويروي أحمد سعيد، أحد زوار المكان، وهو في العقد الثالث من العمر: "كنا نأتي في الماضي مع أمهاتنا لممارسة الكحروتة وقت الظهيرة والطواف، وكنا نقلدهم ونحن صغار، ورغم عدم إيماننا الآن بتلك الطقوس، إلا أنني حريص على زيارة المكان وإحضار أطفالي، فذكرياتي وطفولتي قضيتها في تلك المنطقة".
من هي إيزادورا المبروكة؟
أطلق عليها طه حسين شهيدة الحب إيزادورا، كانت ذات 16 عام، ابنة أسرة إغريقية تعيش في مصر في القرن الثاني ق.م في عصر الإمبراطور "هادريان" في مدينة إنتنيوبوليس (الشيخ عبادة حالياً) بمركز ملوي.
كان والدها حاكماً للإقليم الخامس عشر من أقاليم مصر بمحافظة المنيا، وفي أحد الأيام خرجت إيزادورا من مدينتها عبر النهر لتحضر أحد الاحتفالات الخاصة بالإله "تحوت" رمز الحكمة والعلم في مصر القديمة، ولم تعلم أن قلبها سينبض بالحب هناك.
قابلت إيزادورا، الضابط "حابي" -مصري كان يعيش على الجانب الغربي من النيل في مدينة خمنو (الأشمونين حالياً والمجاورة لتونة الجبل)- وكان أحد قوات الحراسة الموجودة في المدينة، أي كان من أبناء عامة الشعب المصري، فأحبته حباً شديداً، حتى إنهما كانا يتقابلان كل يوم وكل ليلة.
كانت تذهب إليه عند النهر، وكان يأتي إليها بجوار قصر أبيها، ودام هذا الحب ثلاث سنوات حتى انكشف أمرها عند أبيها حاكم الإقليم، الذي قرر أن يقف أمام هذا الحب غير المتكافئ، وعين عليها حراسة مشددة تمنعها من مقابلة "حابي"، وضيق عليها الخناق.
لم تستطع إيزادورا الحياة دون حابي، وقررت أن يكون اللقاء الأخير بينها وبين "حابي"، وغافلت الحراس وعبرت النيل لمقابلة الحبيب للمرة الأخيرة دون أن تخبره أنه اللقاء الأخير، وقررت الانتحار.
وفي منتصف طريقها بوسط النيل ألقت بنفسها حاضنة الموت عوضاً عن حرمان الحب منها، وقد كانت محبوبة أبيها، فأصبح لا يحتمل فراقها، وشعر بالندم عما فعله بقلب ابنته، فقرر أن يشيّد لها مقبرة فريدة الطراز تخلد ذكراها.
وأما حبيبها حابي فظل وفياً بحبه لها وقرر عدم الزواج، وكان يداوم على زيارة مقبرتها يومياً ليجلس معها لساعات، ويشعل الشمع حتى لا تشعر روحها بالوحدة.
هكذا جذبت إيزادورا طه حسين
"الأديب طه حسين من مدينة مغاغة بالمنيا، وهي بعيدة عن هنا. كيف عرف بتونة الجبل؟". هكذا كان سؤال "عربي بوست"، لأحد المرشدين السياحيين بالمنطقة، وأجاب قائلاً: "قصة الكشف عن منطقة تونة الجبل ترجع لخلاف بين اثنين من نباشى القبور بحثاً عن الآثار، وبعد أن دارت معركة بينهما في أوائل القرن العشرين، وصل الأمر إلى الشرطة، والتي بدورها أبلغت منطقة الآثار".
وحسب المتحدث كان المفتش الأثري أنطوان يوسف، هو المسؤول عن تقصي حقيقة الأمر، وبعدها رفع تقريراً لمصلحة الآثار المصرية، والتي كان يرأسها جوستاف لافيروف، وهو فرنسي الجنسية، تحدث عن وجود منطقة أثرية بتلك المنطقة، وكان ذلك في عام 1919.
ويكمل المرشد السياحي، والذي رفض ذكر اسمه كونه غير مخول للحديث للإعلام، قائلاً: "في تلك الفترة كان سامي جبرة قد عاد من فرنسا، حيث درس بها القانون والآثار، وكان شغوفاً بأن يكون هناك فريق تنقيب مصري للآثار، وذلك في ظل استحواذ الأجانب على تلك المهنة، وكان هو من مدينة أسيوط.
وبالصدفة علم من جوستاف، وكان صديقاً له، عن تلك القصة، وطلب منه أن ينقب بالمنطقة، ولكنه رفض لعدم وجود مخصصات مالية، فذهب إلى الدكتور أحمد لطفى السيد، والذي كان يرأس جامعة القاهرة حينها، وبدوره أحاله لطه حسين كعميد لكلية الآداب، والتي بها قسم للآثار، وبالفعل تم تخصيص عدة مبالغ مالية، واستمر العمل حتى تم الكشف عن تلك الآثار عام 1935″.
"وما أن زارها طه حسين وعلم بما كشفت عنه البعثة الأثرية، حتى تعلق بتلك الفتاة، وأطلق عليها شهيدة الغرام، وقام بإنشاء استراحة خاصة به في جوارها، وكان يزور قبرها مساءً حاملاً البخور والشموع.
وترجح المصادر أنه استلهم من فجيعتها فكرة روايته "دعاء الكروان"، والتي كتبها أثناء إقامته في هذه الاستراحة، والتي تم تصوير بعض لقطات فيلم دعاء الكروان بداخلها، والذي تم عرضه عام 1959، حسب ما قال المرشد لـ"عربي بوست".
نقص الخدمات اللوجستية
ورغم ما تمتلكه المنطقة من مقومات مزار عالمي ليس له مثيل، إلا أن هناك عوائق تحول دون تحويل تلك المنطقة لتكون مزاراً سياحياً عالمياً، حسب ما أفاد به حمادة حسن أحد رواد العمل الثقافي بمركز ملوي عن تلك المعوقات.
وقال: "للأسف هناك إهمال كبير في المنطقة السياحية، فهناك كارثة الزحف الرملى على المنطقة، خصوصاً أنها تقع في منطقة رمال ناعمة، وعدد العمال القليل ليس كافياً لإزالة الكثبان التي تغطي المناطق الأثرية، وهو أمر يحتاج لتدخل سريع، ذلك مع وجود إهمال في تطوير المكان، وتشديد الرقابة عبر كاميرات تشمل المنطقة بأكملها".
ويكمل حمادة حديثه مع "عربي بوست": "والأمر الثاني المهم الذي تحتاجه المنطقة، هو الخدمات اللوجستية المهمة، فالمنيا في وسط صعيد مصر، وبعيدة عن القاهرة، لذلك نحتاج لمطار قريب، ومدينة ملوي الجديدة يمكن أن تكون مكاناً مناسباً لذلك".
ويشير المتحدث قائلاً: "لا يوجد في المركز سوى فندق واحد، وهو في الأساس مقهى، والخدمات به متدنية جداً، لذلك نحتاج إلى بنية تحتية، خصوصاً أن تونة الجبل تحيط بها العديد من المناطق الأثرية المهمة، مثل منطقة تل العمارنة ومدينة الأشمونين، وأماكن أخرى، وفي حال توفر تلك الخدمات ستكون المنيا والصعيد على الخريطة العالمية للمزارات السياحية".