في قلب الصحراء العُمانية، تقبع قصة مكان نُسجت حوله الأساطير وسطَّرت الطبيعة قدرتها على الإبداع والهدم في آن واحد. "وادي المُر"، قرية غُلبت على أمرها بأمواج من الرمال المتحركة، تروي حكاية الصمود والاستسلام، الجمال والخراب.
في هذا المقال، نأخذكم في رحلة إلى القرية المدفونة التي تُعانق الذكريات تحت ثقل الرمال، مستعرضين تاريخها العريق، ومحنتها مع الطبيعة، والجمال الخفي الذي لا يزال يستقطب الزوار والمصورين على حد سواء.
وادي المُر.. إرث تحت الرمال
سقطت قرية "وادي المُر" في طي النسيان قبل ثلاثة عقود، حين هجرها سكانها تاركين وراءهم ذكريات تغمرها الآن تلال الرمال. تقع هذه القرية شمال شرقي مركز ولاية جعلان بني بوعلي، في محافظة جنوب الشرقية بسلطنة عُمان، على بُعد 80 كيلومتراً من مركز الولاية.
تحولت هذه القرية، التي كانت يوماً مأهولة بالسكان، إلى أطلال تتحدى الزمن، حيث إن الرمال المتحركة التي جرفتها الرياح لم تترك وراءها سوى قليل من الأدلة على وجود حياة سابقة.
على الرغم من الإهمال والنسيان، فإن "وادي المُر" لا تزال تحتفظ بجمال خاص. القرية التي تُعرف الآن بـ"القرية المدفونة"، تجذب المصورين والمستكشفين من كل مكان. هاني المعشري، مصور عُماني مشهور، شارك تجربته مع موقع CNN بالعربية قائلاً: "قررت تصوير القرية قبل أن يبتلعها بحر الرمال"، مشيراً إلى التحديات التي واجهها بسبب الرياح الشديدة المُحمّلة بحبات الرمل والتي أثرت على جودة الصوت في تسجيلاته.
ينصح المعشري الزوار باستخدام مركبات الدفع الرباعي لتسهيل الوصول إلى هذه الأطلال، التي يكمن في تصميمها البسيط والمتشابه للبيوت القديمة، إرث يحكي قصة أجيال عاشت وسط الرمال.
مع مرور الزمن، بدأت أسطح المباني وأقسام من الجدران الحجرية تظهر من جديد، كشاهد على الحياة التي كانت تزدهر في هذه القرية. المسجد القديم، الذي كان يقع في قلب "وادي المُر"، يعد أبرز المباني التي بدأت تعود إلى السطح، مما يُذكّر بالتراث العماني الأصيل.
أما الكثبان الرملية، التي كانت ذات يوم سبباً في دفن القرية، تُعيد اليوم الكشف عن بعض معالمها، محافظةً على شكلها القديم الذي يُعتبر نموذجاً للعمارة العمانية التقليدية.
القرية المدفونة.. الجمال وسط الخراب
القرية المدفونة ليست مجرد موقع أثري، بل هي رمز للحنين والذكريات لكثيرين ممن كانوا يسكنونها. اليوم، تُعد "وادي المُر" وجهة لعشاق الرحلات، خصوصاً محبي المغامرة والطبيعة، حيث يقطعون مسافات في الصحراء لرؤية هذه المنطقة الفريدة من نوعها.
بعضهم يفضل استخدام سيارات الدفع الرباعي للوصول بطريقة أسهل، في حين يجد الآخرون في السير على الأقدام طريقة للتواصل مع الطبيعة واستكشاف الجمال الخفي في قلب الخراب.
وادي المُر، بكل ما تحمله من قصص وذكريات، تُعد شاهداً على قوة الطبيعة وقدرتها على التشكيل والتغيير. تحكي الأطلال قصص أجيال عاشت وحلمت وبنت في هذا المكان، لتبقى القرية المدفونة رمزاً للتاريخ العماني العريق ودعوة إلى استكشاف الجمال في أبسط صوره وأكثرها إلهاماً.
ما يُثير الاعجاب في قصة "وادي المُر" هو كيفية تفاعل الإنسان مع البيئة المحيطة وتأقلمه مع الظروف الطبيعية القاسية. في البداية، كانت البيوت في القرية مبنية من مواد بدائية، لكن مع مرور الوقت، وجد أهالي المنطقة طرقاً لإعادة بناء منازلهم بالإسمنت والمواد الطبيعية المتوافرة، مثل الرمال والحجارة، ليُظهروا مرونة بالغة في مواجهة البيئة القاسية.
هذه القدرة على التكيف تُعد شاهداً على العلاقة المعقدة بين الإنسان والطبيعة، حيث يحاول الإنسان دائماً إيجاد طرق للتعايش مع الظروف، بل استغلالها لصالحه في بعض الأحيان.