عبر التاريخ سمعنا بأنواع مختلفة من السجون التي عوقب فيها المتهم حسب قانون الدولة، فيما استخدمت أخرى وسيلة للتعذيب، إلا أن هناك نوعاً آخر من السجون لا يقتصر فقط على الأحياء فقط بل يستمر معهم إلى ما بعد الموت أيضاً.
في سجون الاحتلال تحتفظ إسرائيل بأزيد من 300 جثة لشهداء فلسطينيين، في مقابر الأرقام الإسرائيلية وثلاجات الموتى تعود الجثامين المحتجزة، حاملة قصص شهداء فلسطينيين وعرب، سواء كانوا من الذكور أم الإناث.
يمتد تاريخ هؤلاء الأبطال عبر أزمنة متعددة وسنوات متباعدة، حيث سقط بعضهم في سبعينيات القرن الماضي، بينما استشهد آخرون حديثاً.
ليس الاحتجاز مقتصراً على الذين شاركوا في المقاومة أو نفذوا عمليات فدائية نوعية، فهناك جثامين محتجزة تعود إلى شهداء قتلوا عمداً على يد قوات الاحتلال، أو تمت تصفيتهم بعد اعتقالهم. من بين هؤلاء الشهداء تبرز قصة الشهيدة دلال المغربي، حيث ما زالت جثتها محتجزة منذ أكثر من أربعين عاماً.
وتظهر أيضاً تسعة جثامين محتجزة تعود إلى أسرى توفوا داخل السجون الإسرائيلية نتيجة للتعذيب والإهمال الطبي والقتل البطيء. الاحتلال يرفض الإفراج عنهم، حيث لم يكتفوا بالاحتجاز أحياء بل يستمرون في حبس جثامينهم بعد وفاتهم.
يتصدر قائمة هؤلاء الأسرى الشهيد أنيس محمود دولة، الذي فارق الحياة بين جدران سجن عسقلان في 31 أغسطس/آب 1980، إلى جانب ثمانية آخرين.
تلك القصص المأساوية تشير إلى استمرار الصراع والظلم، حيث يتجاوز الاحتلال فظائعه إلى حد الاحتفاظ بجثث الأبرياء كجزء من سياسته القمعية، فما سبب الاحتفاظ بالجثث، وما هي مقابر الأرقام الإسرائيلية؟
مئات الجثامين تحتفظ بها إسرائيل
منذ ثمانينيات القرن الماضي، تواصل إسرائيل احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين. في عام 2015، كانت الأرقام مثيرة للانتباه، حيث سُجل وجود حوالى 117 جثة في الثلاجات الإسرائيلية، بينهم 12 طفلاً وسيدة، إضافة إلى 11 أسيراً. كما تحتجز إسرائيل 256 جثماناً في "مقابر الأرقام الإسرائيلية"، بالإضافة إلى 74 جثة مفقودة.
قبل عام 2015، سلم الاحتلال 120 جثماناً من الشهداء المحتجزين في الثلاجات، و230 آخرين في مقابر الأرقام الإسرائيلية. ومع ذلك، زادت الأعداد بشكل أكبر وأسرع منذ ذلك الحين، مع جهود فلسطينية وعربية ودولية كبيرة تبذل لإنهاء هذا الملف وتسليم جثامين الشهداء، ولكن يظل الاحتلال يرفض حتى الآن تسليمها.
تاريخ مقابر الأرقام الإسرائيلية يعود إلى عام 1948، ورغم القليل الذي تم الكشف عنه، فإن هذه المقابر تحتوي أيضاً على جثامين لعرب أيضاً، يعد الأسير خضر عدنان آخر من تم احتجاز جثته منذ مايو/أيار 2023.
يتوقع أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة قد تزيد عدد الجثث المحتجزة بشكل كبير، خاصة مع استمرار حالات الاعتقال والأعداد الكبيرة من الأشخاص المفقودين عن عائلاتهم.
دولياً تشير الاتفاقيات، بما في ذلك اتفاقية جنيف الأولى، إلى أهمية احترام رفات المتوفين خلال النزاعات المسلحة. وفقاً لناشط حقوق الإنسان، سمير أبو شمس، تتعارض سياسة إسرائيل بالاحتفاظ بجثث الشهداء مع القوانين الدولية، وتُعتبر انتهاكاً للأعراف الدولية، حيث تعتبر هذه الخطوة بمثابة إخفاء قسري لجثامين الشهداء.
سنوياً يقوم الفلسطينيون بإحياء فعاليات رسمية وشعبية لما يسمى اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب وذلك في 27 أغسطس/آب من كل عام، فحسب وكالة الأناضول، قال رئيس لجنة دعم الأسرى في نابلس، مظفر ذوقان، إن إسرائيل تحتجز جثامين 398 شهيداً، إما في مقابر الأرقام الإسرائيلية، وإما في ثلاجات الموتى إلى حدود شهر أغسطس/آب 2023.
قانون إسرائيلي للاحتفاظ بالجثامين
أقر البرلمان الإسرائيلي قانوناً مثيراً يسمح للشرطة باحتجاز جثامين الفلسطينيين المتهمين بتنفيذ هجمات لفترة غير محددة. صدر بيان عن الكنيست سنة 2018 حيث حصل على 48 صوتاً مؤيداً مقابل 10 أصوات معارضة.
القانون يتيح للشرطة تحديد شروط تسليم جثمان فلسطيني يُتهم بتنفيذ هجوم، ويصفه القانون بأنه "إرهابي". إذا اعتبر قائد الشرطة أن جنازة الشخص قد تشكل تهديداً بحدوث هجوم آخر أو تتحول إلى تظاهرة سياسية، يمكنه فرض قيود على التوقيت والمكان وعدد المشيعين، وحتى احتجاز الجثة حتى يتم الاتفاق مع أسرته على الشروط.
تاريخياً، كانت الحكومة الإسرائيلية تمتنع عن تسليم جثث الفلسطينيين الذين قتلوا خلال هجمات، ما لم يتم تسليم رفات جنود إسرائيليين. يذكر أن المحكمة العليا الإسرائيلية كانت قد أعلنت سابقاً أن هذه السياسة غير شرعية، ولكنها منحت الحكومة ستة أشهر لوضع تشريع جديد، وهو ما أدى إلى إقرار هذا القانون.
الجثامين والتجارب الإسرائيلية
تقرير رسمي نشرته وزارة الإعلام الفلسطينية في 18 نيسان/أبريل 2022، يكشف عن اتهامات ضد إسرائيل بالاستفادة من جثامين الفلسطينيين المحتجزة كـ"بنوك بشرية" لأعضاء الجسم.
يُشير التقرير إلى أن السياسة الإسرائيلية زعمت أنها انتهت في التسعينيات، ولكن يظل الحديث حولها قائماً. في 4 تموز/يوليو 2022، أكد رئيس الحكومة الفلسطينية محمد أشتية وجود "معلومات مؤكدة" تثبت قيام بعض كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية بسرقة جثامين الشهداء واستخدامها دون علم أسرهم.
خلال السنوات الماضية، تم نشر صور لجثامين الشهداء في ثلاجات الموتى لفترات متفاوتة قبل تسليمها لأهلهم، وتبين أن بعضها يفتقد بعض الأعضاء وتظهر عليها علامات جراحية تشير إلى استئصال أعضاء.
تقول الشكوك إن الجلد يُستخدم في المعاهد والجامعات. يقوم مركز القدس بمتابعة هذا الملف، وقد تم رفع قضايا، ولكن إسرائيل تتجاهل القوانين الدولية وتمنع الصليب الأحمر من التفتيش في المقابر ومعاينة الجثامين.
تم الكشف أيضاً عن حالات، حيث تم الإفراج عن جثث الشهداء مع وجود قطع لحم مفقودة وخيوط جراحية، مما يشير إلى سرقة بعض الأعضاء. يُشير التقرير إلى أن الاحتلال يستمد قوته ويتجاوز القوانين الدولية بفضل دعم الولايات المتحدة وعدم مقاومة فعالة من الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك تحتجز إسرائيل الجثمان أسابيع قبل تسليمه إلى عائلته، في ثلاجات بدرجة حرارة تتراوح بين 60 و80 درجة مئوية تحت الصفر، حتى يصعب تشريحه ومعرفة ما إذا تمت سرقة أعضاء من جسده.
وفي إطار هذه الاتهامات، تتعامل إسرائيل مع مواثيق حقوق الإنسان بسخرية ولا تسمح للصليب الأحمر بفحص المقابر أو دراسة حالة الجثامين في الثلاجات، الأمر الذي يتعارض مع صلاحيات الصليب الأحمر المستمدة من الاتفاقيات الدولية.
بنك الجلد الإسرائيلي
تعود جذور بنك الجلد الإسرائيلي إلى ما بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حيث اتخذت دولة الاحتلال قراراً بضرورة علاج جنودها المصابين بالحروق خلال المعارك على الجبهات العربية. ورغم أن فكرة البنك نشأت في تلك الفترة، فإنه تأخر إنشاؤها حتى عام 1985 بسبب خلافات دينية داخل إسرائيل حول مشروعيته. ومع إعلان مجلس الحاخامات الرئيسي عن مشروعيته، بدأ البنك في أداء دوره الحيوي.
خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، كان بنك الجلد الإسرائيلي لاعباً أساسياً في إنقاذ المستوطنين والجنود الذين تعرضوا للحروق نتيجة الهجمات الفلسطينية. وفي حديثه لقناة "العربي"، أشار الخبير في الشؤون الإسرائيلية أنس أبو عرقوب إلى أن البنك هو الأكبر في العالم، متفوقاً على نظيره الأمريكي.
وفيما يتعلق بالاتهامات بسرقة أعضاء من جثامين فلسطينية، يؤكد أبو عرقوب أن هذه الاتهامات ليست مجرد شكوك، مشيراً إلى أنه حتى الإعلام الإسرائيلي يقر بحدوث عمليات انتزاع دون معرفة ذوي الشهداء.
في إشارة إلى احتياطي البنك من الجلد البشري، يثبت الخبير رواية أبو عرقوب، لكنه يشير إلى أن الرقم المُعلن عنه، البالغ 170 متراً مربعاً، قد يكون غير منطقي؛ نظراً لترتيب إسرائيل الثالث في رفض التبرع بالأعضاء بسبب معتقدات دينية.
ما هي مقابر الأرقام الإسرائيلية؟
إسرائيل الوحيدة في العالم التي تتجاوز تنكيلها للأحياء إلى تنكيلها بالأموات أيضاً، حيث تطبق عقوبات لا مثيل لها على جثث الفلسطينيين والعرب الشهداء. تستمر إسرائيل في احتجاز جثامين مئات الشهداء في مقابر سرية، تعرف بـ "مقابر الأرقام الإسرائيلية"، والتي تعتبر مناطق عسكرية مغلقة، ممنوعة من الدخول.
تشير المؤسسات الحقوقية إلى أن هذه المقابر تعود إلى بداية تأسيس إسرائيل، وأنها أصبحت تستخدم بشكل مكثف بداية من عام 1967. ورغم تكريسها منذ ذلك الحين، يظل عدد "مقابر الأرقام الإسرائيلية" وأماكنها وهويات الشهداء المدفونين فيها غير معروف بشكل دقيق.
تشهد تلك المقابر على تجاوزات خطيرة في التعامل مع جثث الشهداء، حيث يتم طمر الجثث بالرمال والطين دون وضع عوازل إسمنتية، وقد يتم دفن أكثر من شهيد في نفس الحفرة. هذا التعامل المهين يتناقض مع القوانين والمعايير الدولية التي تحدد طرقاً مناسبة للدفن الكريم للأموات.
تظل قضية "مقابر الأرقام الإسرائيلية" تحدياً لمنظمات حقوق الإنسان، حيث يتعين التصدي لتلك الانتهاكات بغية إلقاء الضوء على حجم الظلم الذي يتعرض له الشهداء وعائلاتهم، وضرورة الكشف عن الحقيقة وتقديم المسؤولين عن هذه الجرائم إلى العدالة.
وفقاً لتقرير "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء"، لم يكشف سوى عن أربع مقابر من بين "مقابر الأرقام الإسرائيلية" وهي:
- مقبرة الأرقام المجاورة لجسر بنات يعقوب:
تقع هذه المقبرة في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الإسرائيلية – السورية – اللبنانية، شمالي بحيرة طبريا، فيما تحتضن جثامين شهداء فلسطينيين ولبنانيين، أغلبهم سقطوا خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والأحداث التالية.
- مقبرة الأرقام بين أريحا وجسر دامية في غور الأردن:
توجد في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر دامية في غور الأردن، وهي محاطة بجدار مع بوابة حديدية تحمل لافتة بالعبرية "مقبرة لضحايا العدو"، وتحتوي على أكثر من 100 قبر.
- مقبرة ريفيديم في غور الأردن:
تتموقع ريفيديم في غور الأردن أيضاً، ويوجد بها عشرات المقابر التي قام الاحتلال الإسرائيلي بدفن بعض الجثث بها.
- مقبرة شحيطة في وادي الحمام:
تقع هذه المقبرة في قرية وادي الحمام شمالي مدينة طبريا، بين جبل أربيل وبحيرة طبريا، فيما تحتوي على جثامين شهداء معارك منطقة الأغوار بين عامَي 1965 و1975.