كان النادل البالغ من العمر 82 عاماً متحمساً لبدء وردية عمله، وبدأ يستقبل الزبائن داخل المطعم الياباني بتحية حارة يقول فيها "إيراشياماز!" أو "مرحباً بكم!". لكن الأمور تعقّدت قليلاً عندما حان وقت تدوين طلبات الزبائن، إذ تقدّم نحو إحدى الطاولات في البداية، لكنه نسي إحضار لوح نماذج الطلبات الخاص به. ثم أوصل قطعة كعك يحملها بحذرٍ إلى الطاولة الخاطئة. في ما انتظر زبون آخر لمدة 16 دقيقة بعد جلوسه من أجل الحصول على كوب ماء.
ومع ذلك لم يُعرب أحد الزبائن عن أي شكوى أو يُحدث جلبةً حيال الأمر. حيث تقبّل الزبائن تلك الأخطاء وضحكوا معه في كل مرة. هكذا تسير الأمور داخل مقهى Orange Day Sengawa المعروف باسم مقهى الطلبات الخاطئة وذلك وفق التقرير الذي نشرته صحيفة Washington Post الأمريكية والذي وثق الظاهرة يوم الثلاثاء 19 سبتمبر/أيلول 2023.
مقهى الطلبات الخاطئة في اليابان
يقع هذا المقهى المكون من 12 مقعداً في ضاحية سينغاوا بغرب طوكيو، ويُوظف كبار السن المصابين بالخرف للعمل في تقديم الطلبات مرةً كل شهر. يُذكر أن أحد والدي مالك المقهى السابق كان مصاباً بالخرف، وقد وافق المالك الجديد على السماح لهم باستئجار المكان مرةً كل شهر بغرض تحويله إلى "مقهى للخرف". ويتعاون القائمون على الفكرة مع الحكومة المحلية حالياً من أجل الوصول إلى مرضى الخرف في المنطقة.
ويُمكن وصف المقهى بأنه يمثل مساحة آمنة لمرضى الخرف حتى يتفاعلوا مع أشخاص جدد، ويصبحوا منتجين، ويشعروا بالحاجة إليهم -وهي أشياء ضرورية من أجل إبطاء تقدم الخرف الذي يُعد مرض تحلل عصبي لا علاج له.
وقال النادل توشيو موريتا، الذي بدأت تظهر عليه أعراض الخرف قبل عامين: "المكان هنا ممتع للغاية. أشعر وكأنني أزداد شباباً بمجرد وجودي هنا".
تداعيات خطيرة لمرض الخرف
يأتي مرض الخرف بتداعيات مُذلة وأعباء مالية لا تنتهي، ويمثل ظاهرةً عالمية تواجهها جميع المجتمعات. لكن الخرف يمثل تحدياً ملحاً للصحة الوطنية في بلدٍ مثل اليابان، الذي يُعد المجتمع الأكبر سناً في العالم.
ولا شك أن النقص المزمن في مقدمي الرعاية وارتفاع تكاليف رعاية المسنين داخل اليابان هي أمور تشير إلى حاجة البلاد لاكتشاف طرق مبتكرة لدعم مرضى الخرف، وذلك حتى يتمكنوا من الحفاظ على نشاطهم العقلي والبدني لأطول فترةٍ ممكنة، بدلاً من العيش في عزلة داخل البيت أو المستشفى.
وتُمثل "مقاهي الخرف" وسيلةً لسد تلك الفجوة. إذ ظهر المفهوم للمرة الأولى في اليابان عام 2017 من خلال الفعاليات المؤقتة، لكن البلاد تشهد تشكيل المزيد من الجهود الأكثر استدامة اليوم.
يبلغ عمر كازوهيكو 65 عاماً وجرى تشخيصه بالخرف قبل خمس سنوات، بينما يعمل في المقهى مرةً كل شهر. إذ أرادت زوجته أن تعثر له على مكان يُتيح له التفاعل مع أشخاص آخرين بخلاف أولئك الذين يراهم أثناء الرعاية النهارية. وطلبت عائلة كازوهيكو عدم ذكر اسمه الأخير للحفاظ على خصوصية العائلة.
وفي إحدى المرات، كان كازوهيكو متجهاً نحو إحدى الطاولات حاملاً الطلب في يديه، لكن انتباهه تشتّت عندما أحدث فريق عمال بناء جلبةً كبيرة في الخارج. فمضى كازوهيكو في طريقه إلى خارج المقهى وتحرك في اتجاه الصوت، قبل أن يهرع العاملون في المطعم لإعادته.
وسأله أحد الزبائن قائلاً: "منذ متى وأنت تعمل هنا؟ هل هذا هو يومك الأول؟". فأجاب كازوهيكو قائلاً: نعم، على الرغم من أنها لم تكن ورديته الأولى.
مقاهٍ لرعاية مرضى الخرف في اليابان
يفتح مقهى الطلبات الخاطئة أبوابه مرةً واحدةً في الشهر خلال وقت الغداء، وذلك اعتباراً من أبريل/نيسان. ويعمل داخله أحد مرضى الخرف كنادلٍ لمدة ساعة، مرتدياً مئزراً باللون البرتقالي الزاهي الذي يرتبط برعاية مرضى الخرف. وهناك كرسي مخصص لهم بجوار المطبخ حتى يتمكنوا من الاستراحة بين الطلبات.
ويعكف المتطوعون الأصغر سناً على مساعدة النُّدُل المسنين أثناء تحديدهم لطلبات الزبائن في نماذج الطلبات، التي تأتي بتصميم مُبسّط ومُرمِّز بالألوان. ويصعب على المسنين تذكر أرقام الطاولات، لهذا استبدل الفريق أرقام الطاولات بوردةٍ واحدة في المنتصف، واختاروا لوناً مختلفاً لكل طاولة.
وتأتي الفكرة انطلاقاً من رغبة مديري المقهى في مساعدة المجتمع على إدراك أن مرضى الخرف يُمكنهم إطالة سنوات نشاطهم، ولا يحتاج الأمر سوى القليل من التفهّم والصبر من جانب أولئك الذين يتعاملون معهم.
حيث قالت يوي إيواتا، التي تساعد في إدارة المقهى: "يتواجد الكثير من كبار السن إما في دور المسنين أو منعزلين داخل منازلهم، ولهذا آمل أن تساعد مبادرتنا في منح المصابين بالخرف شيئاً يتطلعون إليه. وإذا كوّن الناس فهماً أعمق للأمر، فسيصبح من السهل على المصابين بالخرف أن يخرجوا إلى العالم".