يمكن القول إن صناعة الهواتف الذكية هي القطاع الأسرع نمواً في الاتصالات والإنترنت في الوقت الحالي، وهذا طبيعي في ظل سيطرة الهواتف المحمولة التي صارت جزءاً أساسياً من حياة العديد من الأفراد حول العالم.
لكن في كل مرة تُقرّر فيها التقاط هاتفك الذكي لتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أو استخدام "الماك بوك" لإرسال بريد إلكتروني، أو التواصل مع زملاء العمل، سيتوجب عليك -بعد قراءة هذا النص- تذكّر أن كل تلك الأجهزة قد وصلتنا بأثمانٍ باهظة.
وبالحديث عن الثمن في صناعة الهواتف، فليس المقصود هنا الأموال التي دفعها المستهلك نظير حصوله على هاتفٍ حديث ومتطور، بل المعاناة والدماء البشرية التي تمرّ عبرها صناعة الهواتف الذكية. فخلف هذا الجهاز الفخم قصصٌ كثيرة عن انتهاكاتٍ بالجملة لحقوق العمال.
الكولتان "اللعين".. هاتفك ملوث بدماء حرب الكونغو
لا يُعد هذا المعدن مشهوراً بين عموم الناس، رغم أنه صار أحد أكثر المعادن أهمية خلال السنوات الأخيرة. فـ"الكولتان" هو المعدن الخام الذي يُصنّع منه النيوبيوم والتانتالوم، العنصران اللذان يتميزان بكثافتهما العالية، ويتمتعان بدرجة انصهار حرارية مرتفعة قد تصل إلى 3 آلاف درجة مئوية.
وإضافةً إلى ذلك، يتميز النيوبيوم والتانتالوم بقابليتهما للطرق والسحب، ولهما درجة صلابة عالية، ومقاومة كبيرة للحوامض وعوامل التآكل.
هذه الخصائص الفريدة جعلت من الكولتان (Coltan) عنصراً رئيسياً في العديد من الصناعات التكنولوجية وأبرزها صناعة الهواتف واللابتوبات؛ لأنه يُستخدم في تكوين المكثفات الكهربية، وأجهزة الاستشعار، إضافةً إلى الشاشات التي تعمل باللمس (Touch Screens)، وأقراص التخزين الصلبة (Hard Disks)، ومصابيح الليد (LED)، وغيرها.
ونظراً للطفرة التكنولوجية التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، والانتشار الكبير للهواتف المحمولة، فقد زادت شهية الشركات العالمية على معدن الكولتان الموجود بشكلٍ أساسي في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
الكونغو هي المورد الأهم للحصول على الكولتان، فهذه البلاد مترامية الأطراف، التي يصل عدد سكانها إلى 100 مليون نسمة ويعيش أغلبهم في فقرٍ مدقع، تحتوى على نحو 80% من رواسب الكولتان العالمية، وتُنتج نحو ثلثي الإمداد العالمي له.
تعاني الكونغو من حربٍ أهلية طاحنة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، راح ضحيتها حتى الآن نحو 6 ملايين قتيل. بؤر اشتعال الصراع الأساسية هي في شرق الكونغو، وهي المناطق التي تتركز فيها الثروات المعدنية وفي مقدمتها الكولتان.
ولعل الثروات المعدنية الطبيعية التي تتميز فيها هذه المنطقة، والتي يزداد الطلب عليها عالمياً، هي أحد الدوافع الرئيسية لتجدد القتال الدائم بين حكومة الكونغو والجماعات المسلحة المختلفة، في حربٍ تتداخل فيها الدول الإفريقية المجاورة أيضاً.
فجميع الأطراف تحاول الاستفادة من الثروات الطبيعية في المنطقة واستغلالها في صناعة الهواتف، ولهذا وصف الرئيس الكونغولي (بول كاغامي) الصراع في بلاده بأنه "حربٌ ذاتية التمويل".
ففي سبيل السيطرة على تعدين الكولتان، تعمل الجماعات المسلحة في شرق الكونغو باستمرار على ابتزاز عمال المناجم داخل البلاد، وتفرض ضرائب عليهم مقابل السماح لهم بالوصول إلى مواقع عملهم، كما أنها تتقاتل فيما بينها للسيطرة على مناطق الإنتاج.
هذا الواقع "الكارثي" تسهم في تغذيته العديد من شركات التكنولوجيا العالمية، التي تسعى للحصول على الكولتان بأي وسيلةٍ وبأرخص الأسعار، باعتباره مكوّناً أولياً في سلاسل إمداد صناعة الهواتف الذكية.
وقد تعرضت شركات كبيرة، مثل "أبل" و"سامسونج" و"سوني"، لانتقاداتٍ كثيرة وقاسية، ورُفعت عليها دعاوى قضائية بسبب تساهلها في الحصول على الكولتان من مناطق النزاعات في الكونغو، ما يعد تمويلاً غير مباشر لأمراء الحرب في البلاد.
ورغم محاولات الأمم المتحدة للسيطرة على الوضع، ووضع قيودٍ على المعادن المستخرجة في مناطق التوتر، إلا أن إدراج هذه السياسات حيز العمل الجاد، ومراقبة التزام الشركات الكبرى بتنفيذها، لا يزال موضع شك كبيرٍ.
والحقيقة أنه يمكن للشركات أن تلعب دوراً مركزياً في الحدّ من انتهاكات حقوق الإنسان، عبر شراء هذه المعادن من مصادر مشروعة، بدلاً من المناجم غير المشروعة، ما يؤدي إلى تفاقم الصراع وإساءة معاملة عمال هذه المناجم؛ هي حلقة مترابطة فيما بينها.
لكن لسوء الحظ، كانت شركات التكنولوجيا الكبرى مهملة لهذا الواقع المظلم وبطيئة في التكيّف معه حتى الآن، والقليل منها قد اتخذ خطواتٍ فعلية لتحديد مصدر الكولتان.
تشير التقارير إلى أنه حتى عام 2019، استخدمت شركات كبرى -مثل Apple، وSony، وSamsung- بطاريات مصنوعة من الكولتان، مصدرها الكونغو مباشرة. وأن هذه البطاريات قد جاءت من "مناجم حرفية"، حيث تكون حماية العمال فيها محدودة للغاية.
رداً على ذلك، رفعت منظمة International Rights Advocates دعوى قضائية جماعية تطالب فيها بمساءلة هذه الشركات حول "العمل الإجباري والإشراف المهمل"، متهمةً إياها (أي الشركات الكبرى) بالمساعدة والتحريض على عمليات تعدين الكولتان غير المشروعة في الكونغو.
ومنذ ذلك الحين، ادّعت شركة أبل مثلاً أنها ستبدأ في اتخاذ خطواتٍ فعالة، مثل إجراء عمليات تدقيق من طرفٍ ثالث للتأكد من أن الموردين يلتزمون بالمعايير الأخلاقية.
الكوبالت.. الثمن الباهظ في صناعة الهواتف
في عام 2016، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً أعدته -بالتعاون مع "منظمة مراقبة موارد إفريقيا (Afrewatch)"- وجهت فيه لوماً مباشراً إلى عمالقة صناعة الهواتف الذكية في العالم: أبل، وسامسونج، وسوني.
وقد اتهمت هذه الشركات بغضّ النظر عن مصدر وظروف استخراج أحد المعادن الرئيسية، التي تستخدمها في صناعاتها التكنولوجية، وهو الكوبالت (Cobalt)، المعدن الذي يدخل في صناعة بطاريات الليثيوم الأيونية التي تُشغل الهواتف المحمولة.
ففي عملية تعدين الكوبالت، ينخرط عشرات آلاف الأطفال الذين يعملون في المناجم بظروفٍ غايةً في السوء واللا إنسانية، بشكلٍ منافٍ للقوانين الدولية التي تحظر أولاً عمالة الأطفال.
وبحسب التقرير، فإن ما يقارب 40 ألف طفل يعملون في مناجم الكوبالت -الذي توفر الكونغو نحو 50% من الإنتاج العالمي منه- ليقوم تجار وسطاء ببيع المعدن بعد ذلك إلى مسؤولي شركة "كونغو دونغ فانغ" للتعدين (CDM).
و"كونغو دونغ فانغ" هي شركة مملوكة لعملاق صناعة التعدين الصينية، شركة هوايو (Huayou).
يُباع الكوبالت بعد ذلك إلى 3 شركات تصنّع مكونات البطاريات في الصين وكوريا الجنوبية، لتقوم بدورها ببيع الكوبالت من جديد إلى صانعي البطاريات الذين يزودون بها عمالقة التكنولوجيا، مثل: أبل، ومايكروسوفت، وسامسونج، وسوني، وغيرها.
تحصل شركات التكنولوجيا، التي تبلغ أرباحها نحو 125 مليار دولار سنوياً، على المعادن المغذية لصناعتها من أطفالٍ تصل أعمارهم إلى 12 عاماً، وأحياناً أقل من ذلك بكثير، يُجبر معظمهم على ترك مقاعد الدراسة والعمل من دون خيار الموافقة أو الرفض.
يعملون لفتراتٍ طويلة خلال اليوم الواحد، تتخطى 12 ساعة، وفي ظروفٍ قاسية ولا إنسانية، من دون توفر معدات الحماية الأساسية مثلاً -مثل القفازات أو الأقنعة الواقية- ما يجعلهم عرضة للإصابة بتليفات الرئة أو الأمراض الجلدية.
كما أنهم ينزلون ويصعدون من وإلى المناجم بأيديهم وحفاة، لا شيء يحميهم من الصخور التي تترك آثارها على جسدهم، ومن الآثار الكيميائية لتفاعل الكوبالت مع المطر مثلاً.. وكل ذلك مقابل دولارٍ واحد أو دولارين يومياً!
"أمضي نحو 24 ساعة داخل الأنفاق. أصل صباحاً، ولا أغادر إلا في صباح اليوم التالي. وفي معظم الوقت، أُضطر لقضاء حاجتي داخل الأنفاق. كانت والدتي بالتبني تخطط لإرسالي إلى المدرسة، ولكن قرر والدي عكس ذلك، فأجبرني على العمل في المنجم"؛ جانب من شهادة طفلٍ، يُدعى بول (14 عاماً)، أدلى بها في تحقيقٍ أجرته منظمة العفو الدولية.
"عندما أعمل هنا، أعاني كثيراً. توفيت والدتي وعليّ العمل طوال اليوم ورأسي يؤلمني"؛ شهادة أخرى من طفلٍ يُدعى دورسن، لم يتخطَّ الـ8 سنوات.
"عندما أستيقظ كل صباح، أشعر بالفزع حين أتذكر أنه عليّ العودة إلى هنا مجدداً. كل شيء مؤلم هنا"؛ هذا ما قاله الطفل ريتشارد، الذي يبلغ 11 عاماً.
انتهاكات بالجملة في مصانع "آيفون"
في عام 2014، نشرت شبكة الإذاعة البريطانية BBC فيلماً تسجيلياً يستقصي ظروف العمل في مصانع موردي "آيفون" في الصين.
الفيلم، الذي تضمن مقاطع فيديو مسرّبة من داخل المصانع، أظهر ظروف عملٍ غير آدمية على الإطلاق. فقد كان على بعض العمال العمل لأيامٍ متتالية من دون راحة أو توقف، تتجاوز أحياناً 18 يوماً، كان النوم خلالها يداهم الكثيرين جراء إرهاق العمل.
صانعو الفيلم ذكروا كيف أن عدداً كبيراً من العمال، قد يصل إلى 12 شخصاً، كانوا مضطرين في كثيرٍ من الأوقات إلى مشاركة غرفة واحدة صغيرة، بعد يوم عملٍ طويل وشاق.
هذا الفيلم هو حلقة من سلسلة متكررة تُتهم فيها كبرى شركات التقنية المصنعة للهواتف المحمولة -وفي مقدمتها عملاق الصناعة الأمريكي "آبل"- بانتهاك حقوق العمال.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 الماضي، اندلعت احتجاجات كبرى في مصنع "آيفون" بمدينة تشنغتشو (ولاية هينان وسط الصين)، وهو المصنع الأكبر لإنتاج هواتف آيفون والذي تملكه شركة "فوكسكون" التايوانية المتعاونة مع "آبل".
كان المصنع يوظف أكثر من 200 ألف شخص في مكانٍ واحد، من دون اتخاذ أي تدابير احتياطية للسلامة العامة، ما تسبب في زيادة عدد الإصابات بـ"كوفيد-19″؛ لتقرر الشركة فرض حجرٍ على الموقع والعمال في داخله.
قوبل هذا القرار باحتجاجاتٍ واسعة، وفرار مئات العمال من المصنع، رافضين سياسات الشركة التي واجهت اتهامات بالتأخر في دفع أجور العمال أيضاً؛ ما زاد من حدة الاحتجاجات، قبل أن تضطر شركة "فوكسكون" إلى الاعتذار، وترجع المشكلة إلى "خطأ تقني" في أنظمة الدفع.
مشاكل آبل المتكررة كان من بينها ما أُثير أيضاً عام 2021، عن تورط شركة "بيجاترون" (المتعاونة مع "أبل" بالسوق الصيني) في انتهاك مدونة قواعد السلوك الخاصة بها.
فقد سمحت الشركة لطلاب المدارس الفنية في المدن الصينية بالعمل في نوبات ليلية، وبساعات عمل إضافية، إضافةً إلى القيام بأعمالٍ لا علاقة لها بمجالات دراستهم؛ وذلك في مخالفة صريحة للقانون وأخلاقيات العمل، المنصوص عليها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل قامت بعد ذلك بتزوير المستندات للتستر على أفعالها، وهو ما اضطر "أبل" مجدداً إلى الاعتذار، وفرض قيود على وأنظمة مراقبة على مورديها في الصين.