لا بد أنك سمعت مسبقاً عن أطفال تميزوا، بعمر مبكر، في مجالات مختلفة مثل العلوم والفنون والموسيقى، ويوصف هؤلاء غالباً بأنهم "موهوبون بالفطرة"، لكن العلماء يرجحون أن "الذاكرة الوراثية" هي السبب الكامن وراء إبداعهم، فما هي هذه الذاكرة؟ وهل فعلاً تخزن ذكريات أسلافنا في جيناتنا الوراثية؟
الذاكرة الوراثية
الذاكرة الوراثية ببساطة، هي ظاهرة تفسر امتلاك قدرات معقدة ومعارف متطورة دون الحاجة إلى اكتساب هذه المعارف عن طريق التعلم، إذ تكون هذه القدرات موروثة من الأسلاف ومدمجة في الجينات.
وعلى الرغم من أن هناك مبالغات ونظريات قد تم دحضها بخصوص الذاكرة الوراثية، فإن العلماء وجدوا أن من الممكن توريث المعارف التي اكتسبتها الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة عن طريق الجينات، فقد درب الباحثون مجموعة من الفئران على ربط رائحة معينة باستجابة الخوف، ثم لاحظوا أن هذا الربط قد تم توريثه إلى الأجيال اللاحقة من الفئران التي لم تتعرض للتجارب التي عاشتها الأجيال السابقة. وعلى الرغم من أن العديد من الباحثين استنتجوا من هذه الدراسة أن من الممكن توريث المعارف عبر الجينات، فإن علماء آخرين يميلون إلى البحث عن أسباب أخرى لتفسير هذه الظاهرة.
وغالباً ما تتجلى الذاكرة الوراثية في المراحل الأولى من عمر الإنسان، إذ تتجلى المعرفة بصورة ذاكرة موروثة مع غياب الخبرة الحسية المرتبطة بها.
أمثلة على الذاكرة الموروثة
يعتبر الأمريكي ليزلي ليمك أحد أشهر الأمثلة التي تفسر ظاهرة الذاكرة الموروثة، فقد ظهرت موهبة ليمك الموسيقية في سن مبكرة، لكن الغريب أنه لم يتلقَّ أي دروس موسيقية على الإطلاق، بل كانت موهبته فطرية بحتة، مما دفع بعض العلماء إلى اعتقاد أنه قد "ورث" هذه الموهبة، وأن إبداعه الموسيقي موجود في جيناته الوراثية.
ألونزو كليمونس مثال آخر على امتلاك موهبة دون تعلُّم، ويعتبر كليمونس الذي لم يدرس الفنون في حياته، واحداً من أشهر النحاتين حول العالم، إذ بدأ مهنته كنحات في عمر صغير، بعد أن ظهرت موهبته في نحت أي تمثال خلال ساعة أو أقل وبصورة رائعة للغاية، دون أن يتعلم فن النحت في وقت سابق.
وتعتبر الذاكرة الموروثة تفسيراً مرضياً بالنسبة لكثير من العلماء، إذ تفسر سبب تميز ليمك وكليمونس وغيرهما من المبدعين بشكل فطري دون تعلم في مجالات مختلفة تشمل الموسيقى والفنون والرياضيات وقواعد اللغة.
الفرضيات المطروحة حول الذاكرة الوراثية
لا تزال الذاكرة الوراثية محل جدل بين العلماء، ولا تزال هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث في هذا الصدد.
يفترض بعض العلماء أن ذكريات أجدادنا تحفظ في مادتهم الوراثية DNA لتنتقل لاحقاً إلى أحفادهم جيلاً بعد جيل، مع ذلك فإن هذه النظرية موضع خلاف، لا سيما أننا لا نعرف الآلية التي تجعل أحدنا قادراً على ترجمة ذكريات الأجداد المحفوظة في موروثاتنا.
إلا أن التجارب الكثيرة التي أجريت على الفئران، تبين أن بعض المعلومات والتجارب التي امتلكها الأجداد من الممكن أن تنتقل بالفعل إلى الأحفاد، كما في التجربة سابقة الذكر عندما انتقلت مخاوف الجيل الأول من الفئران إلى الأجيال اللاحقة على الرغم من أن الأجيال اللاحقة لم يخوضوا تجارب أسلافهم نفسها.
ويعتقد البعض، مثل عالم النفس كارل جانغ، أن المعتقدات الدينية وأموراً مثل التمييز العنصري قد تكون موروثة أيضاً، إلا أن هذا الاعتقاد غير مثبت علمياً حتى الآن.
لكن رغمَ كثرة الفرضيات والتكهّنات حول الذاكرة الوراثية، فإن هناك العديد من المعتقدات المدعومة علمياً؛ فالرهاب مثلاً قد يكون موروثاً، كذلك قد تكون المخاوف موروثة، فوفقاً لدراسة أجراها باحثون بجامعة ايموري على الفئران كذلك، من الممكن نقل معلومات متعلِّقة بظروفٍ مُجهِدةٍ وصدماتٍ من الأجداد إلى الأحفاد وذلك من خلال إجراء تعديلاتٍ كيميائيةٍ على المادة الوراثية DNA.
الوراثة مقابل الاكتساب
على الرغم من وجود العديد من الأنصار لنظرية الذاكرة الوراثية، فإن كثيراً من العلماء كذلك يعتقدون أن البيئة المحيطة بالفرد تلعب دوراً حاسماً في المعارف التي يحصلها، ويجدون أن هناك العديد من الصفات المكتسبة في هذا الصدد وضمن ذلك الذكاء والموهبة والاستعداد للتّعلُّمِ، فيما يعتقد آخرون أن هذه الصفات موروثة.
ويعمل الباحثون على إيجاد طرق لتنشيط الذاكرة الموروثة باستخدام تقنيات مثل تحفيز الغدة الصنوبرية، إلا أنه حتى يومنا هذا لا يوجد أي دليلٍ علميٍّ يثبت قدرة الأفراد على تنشيط ذكرياتهم الموروثة عن أجدادهم.
وفي نهاية المطاف لا بد أن لكل من الوراثة والاكتساب دوراً مهماً في تحديد معارفنا وصفاتنا، فضلاً عن القرارات الشخصية، والعوامل البيئية، ونمط الحياة التي تملكُ كذلك تأثيرات كبيرة على نوعية حياتنا.