هناك هياكل حجرية ضخمة من عصور ما قبل التاريخ في الصحاري الممتدة من صحراء السعودية وصولاً إلى كازاخستان، وهي تُثير حيرة علماء الآثار منذ عقود. إذ تمتد كل منها بطول بضعة كيلومترات، لتمثل شكل مصيدة مع خط ذيل عند مشاهدتها من الأعلى.
صحيفة New York Times البريطانية قالت الأربعاء 17 مايو/أيار 2023، إن الدراسات الحديثة أجمعت على أن المصائد الصحراوية المزعومة كانت تُستخدم لحصار وقتل قطعان الحيوانات. لكن اللغز ظل متمثلاً في كيفية تصوُّر وإدراك الصيادين القدماء لتلك الهياكل العملاقة.
حيث قال ريميه كراسارد، عالم الفلك في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، إن المصائد "لا يمكن رؤيتها بالكامل إلا من الجو. وما يزال من الصعب علينا كأثريين وعلماء وباحثين أن نرسم خريطةً ملائمة، حتى باستخدام طرقنا المعاصرة لتصوير مسطحاتنا الأرضية".
أقدم المخططات المعمارية
طار الدكتور كراسارد من الفرح مع زملائه في عام 2015، عندما اكتشفوا عمودَي مونوليث يحملان تصويراً دقيقاً للمصائد الصحراوية القريبة في الأردن والسعودية.
نُقِشَت تلك التصاوير قبل فترةٍ تتراوح بين 7000 و9000 عام مضت، لتمثل أقدم المخططات المعمارية القياسية المعروفة التي سجلها التاريخ البشري، بحسب ما ذكره الفريق في دورية PLOS ONE العلمية الأربعاء 17 مايو/أيار.
تسلط تلك الأعمدة الضوء على مدى دقة التخطيط المحتملة للمصائد الصحراوية بواسطة القدماء، الذين كانوا يعتمدون عليها. وقال الدكتور كراسارد: "من المذهل معرفة وإظهار أنهم كانوا قادرين على امتلاك هذا التصور العقلي لمساحات شاسعة كهذه، مع نقل ذلك التصور إلى سطحٍ أصغر".
على مدار العقد الماضي، استخدم الدكتور كراسارد ورفاقه صور الأقمار الصناعية للتعرف على أكثر من 6000 مصيدة صحراوية بمختلف الأشكال والأحجام، وذلك في مناطق الشرق الأوسط وغرب ووسط آسيا ضمن مشروع يُدعى Globalkites.
بينما كشف باحثون آخرون الستار عن نقوش حجرية تُصوّر تلك الهياكل الغامضة التي صنعها البشر، وذلك أثناء عمليات المسح والتنقيب الأثري. لكن كراسارد قال أثناء حديثه عن النقوش المكتشفة سابقاً: "لم يكن بالإمكان الربط بين تلك الرسوم ومصيدة بعينها".
شيء مميز في صحراء السعودية والأردن
لهذا أدرك علماء الآثار أنهم قد عثروا على شيء مميز خلال المسوحات الميدانية، عندما وجدوا التصاوير الخاصة بالمصيدتين الواقعتين في جنوب شرقي الأردن وشمال صحراء السعودية.
إذ لاحظوا في البداية وجود ثلاث سمات مُميِّزة للمصائد. حيث كانت تحتوي على "خطوط ذيل" تتجسد في صورة خطوطٍ من الصخور شبه المتلاصقة. وتتلاقى تلك الصخور مع منطقةٍ مُسوّرة تُمثّل "جسم" المصيدة، إضافة إلى الحفر المنتشرة بطول حواف جسم المصيدة.
يعتقد علماء الآثار أن قطعان الحيوانات -مثل الغزلان- كانت تتبع تلك الخطوط الحجرية أو تتعرض للمطاردة بطولها، قبل أن تصل إلى المنطقة المُسوّرة وتتعرض للقتل على يد الصيادين، الذين يستخدمون الحفر المصممة في مواقع استراتيجية لحصار الحيوانات التي تحاول الهرب.
سرعان ما أدرك الفريق أن تلك النقوش تتطابق مع شكل وهيكل المصائد الموجودة في المواقع القريبة. إذ تنحني خطوط الذيل الخاصة بالمصيدة عندما تقترب من المنطقة المُسوّرة في جنوب شرقي الأردن، وهي السمة المميزة التي تظهر على الحجر المنقوش أيضاً.
حيث أوضح محمد الطراونة، مؤلف الدراسة وعالم الآثار في جامعة الحسين بن طلال بالأردن: "عندما ننظر إلى صور الأقمار الصناعية والصور الجوية التي نلتقطها في الميدان، سنجد أنها تشبه رسوم المصائد الموجودة بهذه المنطقة فعلياً".
مصائد للحيوانات
تشير النماذج الرياضية أيضاً إلى أن المصائد في منطقة الأردن-السعودية كانت المصائد الأكثر شبهاً بالنقوش، وذلك عندما قارن الباحثون الهندسة الرياضية للحجرين المنقوشين مع صور 69 مصيدة من مختلف المناطق إجمالاً. كما أن مقارنة شكل النقوش مع المصائد القريبة كشفت أن تلك التصاوير كانت نسخةً قياسية مصغرة.
كما استنتج الباحثون أعمار تلك النقوش باستخدام أدوات التأريخ الجيولوجي، من أجل تحديد الوقت الذي مضى على بناء هياكل المصائد المحلية المقابلة.
لكننا لا نعلم بعدُ ما إذا كانت تلك التصاوير قد جُهِّزَت كمخططٍ قياسي، من أجل المساعدة في بناء المصائد، أم كانت تؤدي دور الخرائط للصيادين.
بينما قال وائل أبو عزيزة، مؤلف الدراسة وعالم الآثار في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بالأردن، إن تلك النقوش قد تكون مجرد احتفاءٍ رمزي بمصائد الصحراء التي ربما كانت جزءاً مهماً من الهوية الثقافية للشعوب القديمة التي بنتها واستخدمتها.
فيما قال يوركي روان، عالم الآثار بجامعة شيكاغو، إن النقوش المذكورة في الورقة البحثية تمثل اكتشافاً رائعاً. وأوضح أنه من اللافت للنظر أن الناس على الأرض كانوا يصورون بدقةٍ أشياء لا تُرى بالكامل إلا من الأعلى اليوم.
الصحيفة البريطانية ختمت تقريرها بالقول، إنه لا شك في أن اكتشاف هذه البراعة الذهنية في تصور المساحات يفتح نافذةً جديدة على عقول هؤلاء الصيادين القدماء.