لفترة طويلة في تاريخ الحضارات الإنسانية، آمن العديد من البشر أن للكلمات في التعاويذ على سبيل المثال قوة سحرية يمكن أن تؤثر على العالم المادي من حولنا، وعلى ما يبدو أن لتلك الفكرة جانباً من الصحة، ولكن ليس بالطريقة السحرية الأسطورية وإنما بطريقة علمية.
بعد أن أثبت باحثون من معهد ماكس بلانك في شهر مارس/آذار عام 2023، تأثير تعلم اللغة على تركيبة الدماغ، للناطقين باللغة العربية والألمانية، واكتشفوا اختلافات في توصيلات مناطق اللغة في الدماغ لكل منهم. وبحسب دراسات أخرى هذه الاختلافات تؤثر على طريقة التفكير ورؤيتك للعالم من حولك.
تأثير تعلم اللغة على الدماغ بسبب سماع الأصوات
تماماً كما يمكن لممارسة الرياضة أن تغير أجسادنا، فالأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة لأدمغتنا وتعلم اللغة منذ الصغر سواء كان يتحدث لغة واحدة، أو أن ينشأ في بيئة تتحدث أكثر من لغة، أو حتى يتعلم لغة ثانية في مرحلة لاحقة من حياته، والأمر يحدث كالتالي:
تتشكل الهياكل المادية لأدمغتنا عندما تستجيب خليتان من الخلايا العصبية لمحفز ما مثل كلمة واحدة، تبدأ تلك الخلايا تكوين مسارات كيميائية وفيزيائية بين بعضها البعض، لاحقاً تتم تقوية تلك الروابط والمسارات اعتماداً على عدد مرات تنشيطها معاً، باستخدام تلك الكلمة بشكل متكرر، أو تصبح تلك الروابط ضعيفة إذا لم تستخدم تلك الكلمة.
هذه العملية من تفاعل الخلايا العصبية مع بعضها البعض، وتشابكها معاً. هي الأساس لكل عمليات التعلم التي يقوم بها الدماغ، وتنعكس في تكوين المادة الرمادية والمادة البيضاء في الدماغ.
ومثلما يسمح لك امتلاك عضلات أقوى برفع الأثقال بجهد أقل، فإن زيادة المادة الرمادية قد تسمح بزيادة النشاط الدماغي، حتى ذلك الغير متعلق باللغة، وإنما يركز على التعامل مع المعلومات بطريقة مختلفة.
أدمغة الناطقين باللغة العربية والألمانية تختلف عن بعضها
على مدى عقود، كشف علماء الأعصاب عن وجود نظام معالجة معقدة في الدماغ البشري مسؤولة عن اللغة والأصوات وتفسيرها إلى معانٍ إذا كانت كلمات وفك تشفيرها، وبما أن اللغات في العالم تختلف اختلافاً كبيراً عن بعضها البعض في طريقة تشفيرها للصوت والنحو والمعنى، أظهرت دراسة من جامعة كامبريدج عام 2009 أن وظائف الدماغ تتأثر بالاختلافات بين التنوع اللغوي.
وللإجابة على سؤال حول ما إذا كانت لغة معينة لها تأثير على بنية الدماغ المادية. وجد مجموعة من الباحثين في معهد ماكس بلانك لعلوم الإدراك البشري والدماغ دليلاً على أن اللغة التي نتحدث بها تُشكل أدمغتنا، وبالتالي قد تكون وراء طريقة تفكيرنا.
قارنت الدراسة بين عمليات مسح الدماغ لـ94 "متحدثاً أصلياً" من لغتين مختلفتين تماماً، وأظهر أن اللغة التي نشأنا عليها "تعدِّل" الروابط بين خلايا الدماغ.
تم فحص مجموعتين من المتحدثين الأصليين للغة الألمانية واللغة العربية على التوالي في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI). سمحت تلك الصور بملاحظة ودراسة الاتصال بين مناطق الدماغ، وأظهرت البيانات أن اتصالات المادة البيضاء تتكيف مع مهام معالجة الدماغ للغة، وعلى حسب صعوبات اللغة الأم.
أوضح الدكتور ألفريد أنواندر المسؤول عن الدراسة "أن المتحدثين باللغة العربية كان لديهم ارتباط أقوى بين نصفي الدماغ الأيمن والأيسر من الناطقين باللغة الألمانية، والسبب وراء ذلك كون اللغة العربية معقدة نسبياً وتستخدم الدلالات أكثر من اللغة الألمانية".
كما اكتشف الباحثون أن المتحدثين للغة الألمانية كان لديهم اتصال أقوى في شبكة اللغات في نصف الدماغ الأيسر. يجادلون بأن النتائج التي توصلوا إليها قد تكون مرتبطة بالمعالجة النحوية المعقدة للألمانية، والتي ترجع إلى ترتيب الكلمات وعناصر الجملة.
وعلى سبيل المثال، في دراسة من جامعة كامبريدج عام 2009، ركزت على المتحدثين باللغة اليونانية، تحتوي اليونانية على كلمتين للأزرق "ghalazio" للون الأزرق الفاتح و"ble" تستخدم لوصف اللون الأغمق. وجدت الدراسة أن المتحدثين اليونانيين يمكنهم التمييز بين ظلال اللون الأزرق بشكل أسرع وأفضل من المتحدثين باللغة الإنجليزية.
تحدث أكثر من لغة يؤثر على طريقة رؤيتك للعالم
يولد جميع الأطفال ولديهم القدرة على التمييز بين أصوات الكلام للغات مختلفة، ولكنهم في النهاية يتم ضبط أدمغتهم على الكلمات التي يسمعونها أكثر من غيرها؛ وبناء المسارات العصبية بين خلايا الدماغ وتقويتها بناء على ذلك.
بالنسبة للأطفال الذين يتحدثون أكثر من لغة أو ينشأون في بيئة تتحدث أكثر من لغة، تظل نافذة المعالجة الصوتية "الشاملة" مفتوحة لفترة أطول بسبب تعرضهم لتجربة لغوية أكثر ثراءً.
بعبارة أخرى، فإن المدخلات التي تتلقاها أدمغتنا تشكل الطريقة التي نختبر بها العالم من حولنا.
تظهر دراسات مسح الدماغ أن التبديل بين لغتين يؤدي إلى أنماط مختلفة من نشاط الدماغ مقارنة بالتحدث بلغة واحدة، لا سيما في قشرة الفص الجبهي من الدماغ. ويشارك هذا الجزء في تنظيم المعلومات والعمل بناءً عليها، بما في ذلك استخدام الذاكرة، والتفكير والتخطيط.
ويمكن أن يساعد وجود لغة ثانية أيضاً في منع أو تأخير التدهور المعرفي. كما أن ثنائيي اللغة قادرون على تجنب أعراض الخرف لحوالي 4 إلى 6 سنوات مقارنة مع أحادي اللغة.
وجدت دراسة صدرت عام 2012 عن قسم علم النفس، في جامعة لوند في السويد، أن إعادة تصميم الدماغ ممكنة ومهمة أيضاً. في تلك الدراسة، قُسم المتطوعين إلى مجموعتين، مجموعة درست لغة جديدة بشكل مكثف، بينما درست المجموعة الثانية مواضيع علمية عامة.
بعد ثلاثة أشهر من الدراسة اللغوية المكثفة، ازداد نشاط الدماغ في المناطق المرتبطة بمعالجة اللغة للمجموعة الأولى، في حين أن المجموعة الثانية، التي درست موضوعات صعبة مثل الطب والعلوم المعرفية، ولكن ليس لديها لغات جديدة، لم تشهد أي تغييرات على أدمغتها.
وإن كنت ترغب بتغيير دماغك لست بحاجة لدراسة اللغة بشكل مكثف، تذكر الدكتورة أشلي تشونغ من جامعة نورث وسترن، أن مجموعة من الطلاب كانوا يأخذون فصلاً جامعياً باللغة الإسبانية. وبعد 6 أشهر فقط من دورة اللغة الإسبانية البسيطة، وجدوا أن النشاط العصبي قد زاد مقارنة بالطلاب الذين لم يأخذوا دورة لغة.
ولا تساعد هذه التغييرات في وظائف اللغة فقط، وإنما تؤثر على جزء الدماغ، المسؤول عن أشياء مثل القدرة على التخطيط للسلوكيات المستقبلية ومراقبة السلوك الشخصي وتغييره حسب الحاجة والتبديل بين المهام.