كنت أقرأ القرآن وأتوقف عند كثير من المعاني، أذهب إلى التفسير فتتضح لي الرؤية قليلاً، أذهب إلى سبب نزول الآية وما وراءها من قصة وحكاية، فتتضح الرؤية أكثر، حتى تدبرت فكان الفتح المبين بالنسبة لي حيث وضوح الرؤية أكثر فأكثر.
أحاول جاهده المواظبة على ورد يومي من القرآن الكريم، وأجتهد بشدة في رمضان، ويكأني في سباق مع ذاتي، نعم أزداد حماساً في رمضان وإصراراً على إتمام ختم القرآن الكريم أكثر من 3 مرات، ولم لا وهو شهر القرآن؟ حتى تعلمت كيف أتدبر القرآن.
في حقيقة الأمر مازلت حديثة العهد بتدبر آيات القرآن الكريم التي كانت تستوقفني كثيراً، وأستعجب من طريقة كتابة الآيات القرآنية التي قد تنتهي دون فهم "أي تنتهي الآية من غير معنى واضح لي"، ولماذا كتبت بهذا السياق، كنت أجهل السبب ومازلت في رحلة البحث واكتشاف وتعلم معنى التدبر، لكن حماسي لكتابة رحلتي القصيرة التي بدأت مع التدبر شجعني لتدوين ما توصلت إليه حين تدبرت.
أعلم أن هناك أحاديث كثيرة تشجع على قراءة القرآن حتى وإن لم تستطع قراءته بشكل جيد.
فعن عائشة رضي اللَّه عنها قالَتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: "الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُو ماهِرٌ بِهِ معَ السَّفَرةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يقرَأُالقُرْآنَ ويَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُو عليهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْران". متفقٌ عَلَيْهِ.
وعن أَبي موسى الأَشْعريِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ ﷺ: "مثَلُ المُؤمنِ الَّذِي يَقْرَأُ القرآنَ مثَلُ الأُتْرُجَّةِ: ريحُهَا طَيِّبٌ، وطَعْمُهَا طَيِّبٌ، ومثَلُ المُؤمنِ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرةِ: لا رِيح لهَا، وطَعْمُهَا حُلْوٌ، ومثَلُ المُنَافِق الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرّيحانَةِ: رِيحها طَيِّبٌ، وطَعْمُهَا مُرٌّ، ومَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لا يَقْرَأُ القرآنَ كَمَثلِ الحَنْظَلَةِ: لَيْسَ لَها رِيحٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ". متفقٌ عَلَيْهِ.
وعن عمرَ بن الخطابِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّه يَرْفَعُ بِهذَا الكِتَابِ أَقوامًا، ويضَعُ بِهِ آخَرين". رواه مسلم.
وعنِ ابن عمر رضي اللَّه عنهما، عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "لا حَسَدَ إلَّا في اثنَتَيْن: رجُلٌ آتَاهُ اللَّه القُرآنَ، فهوَ يقومُ بِهِ آناءَ اللَّيلِ وآنَاءَ النَّهَارِ، وَرجُلٌ آتَاهُ اللَّه مَالًا، فهُو يُنْفِقهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النهارِ". متفقٌ عَلَيْهِ.
رمضان 2023 كيف عملني أن رسول الله كان خلقه القرآن؟
كان رسولنا الكريم خاتم الأنبياء، محمد عليه أفضل السلام وأتم التسليم، خلقه القرآن، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث قتادة عن زرارة ابن أبي أوفى، عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله ﷺ. فقالت: أما تقرأ القرآن؟، قلت: بلى! فقالت: كان خلقه القرآن.
هنا تساءلت: كيف يتشبه خلق الرسول بالقرآن، أليس القرآن مجموعة أجزاء مقسمة لمجموعة أحزاب مقسمة لمجموعة سور مقسمة لمجموعة أرباع ومجموعة آيات نزلت من عند رب العالمين، نقرؤها فنتعرف على ديننا وعلى قصص أنبيائنا، ونأخذ منه بعض تعاليم شريعتنا الإسلامية التي تكمل تفسيرها السنة النبوية الشريفة!
فكيف يمكن أن يحدث هذا التشبيه وخلق الرسول أفعال ملموسة وكلام محسوس؟! حتى وضعت قدمي على أولى مفاهيم التدبر، حيث قراءة القرآن بفهم وبهدوء وباطمئنان وبقلب صافٍ وبعقل واعٍ وبروح مشتاقة لاستنشاق وتنفس هواء نظيف كي يطعمها من فضل الله.
في مشواري مع التدبر، فهمت العديد من الأمور، فهمت حكمة الله في جعل هذا القرآن معجزة بكل ما يحمله من معانٍ وقراءات متعددة وتفسير وتدبر وتجويد وأحكام تلاوة.
فهمت لماذا لا يجعل الله هذا القرآن سهل الفهم من أول قراءة، أو أن يكون واضح المعاني به من البلاغة ما يجعله معجزة ربانية، وفعلاً لو كان القرآن سهلاً لدرجة أن تفسره مرة واحدة أو تذهب لكتاب تفسير وشرح للمعاني كي تتضح لك الأمور بكل سهولة، ما شجع ذلك على البحث والاكتشاف وبيان قدرة الله الخالق للمعجزات والذي بيده ملكوت السماوات والأرض.
اكتشفت عندما تدبرت آيات من الذكر الحكيم، أن هناك معجزات في بلاغة اللغة العربية لا تضاهيها بلاغة، فمثلاً يوجد ما يسمى بالالتفات، ومعناه أن تجد في الآية الواحدة مثلاً ٣ أزمنة مختلفة: الماضي والمضارع والمستقبل، مجتمعة في آية واحدة أو آيتين متتاليتين تكمل المعنى، لحكمة بالغة من رب العالمين، وليس فقط في الأفعال، ستجدها أيضاً في الضمائر، ستجد مثلاً آية تخاطب فرداً واحداً، وفي آخرها ستجد أنها تخاطب الجمع.
مثال على ذلك في قوله تعالى في سورة فاطر الآية ٣٣ و٣٤، هاتان الآيتان تتحدثان عن نعيم الجنة في المستقبل، وربنا قال يدخلونها، مضارع، واستخدم عز وجل صيغة الماضي في رد فعل أصحاب الجنة عندما دخلوها مع أنها مستقبل.
قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ 33 وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ 34)، وهنا استخدم عز وجل الماضي لتأكيد الحالة التي سيكون عليها أهل الجنة من أجل أن يطمئن الإنسان.
مثال آخر في قوله تعالى الآية 14 سورة محمد: (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم)، (أفمن كان)، المخاطب هنا فرد، ثم وجدنا الجمع في (واتبعوا أهواءهم)، يعني أفمن كان على برهان واضح من ربه والعلم بوحدانيته، كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله، واتبع ما دعته إليه نفسه من معصية الله وعبادة غيره مِن غير حجة؟ لا يستوون.
فلماذا هنا تحوّل المفرد للجمع؟ لأن الذنب هنا ذنبهم؛ لأن الإنسان أحياناً يأخذ الشيطان شماعة يعلق عليها ذنوبه، وهنا جاءت الحكمة من صيغة الجمع، "رب لا تذرني فرداً" لأن النفس دائماً يصعب عليها الوحدة.
في تدبر القرآن الكريم أيضاً ستجد تناسباً بين أواخر السور وبدايات السور التي تليها، غير التناسب والتناسق الموجود بين الآيات وبعضها، مثل نهاية سورة الواقعة (فسبح باسم ربك العظيم)، ومع بداية سورة الحديد (سبح لله ما في السماوات والأرض)، ونهاية سورة الإسراء (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) ومع بداية سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً).
من هذا التناسق بين آيات القرآن الكريم هنا اتضح لي لماذا يوجد بعض الشيوخ يقومون بقراءة القرآن وصلة واحدة مثل وصل سورة الإسراء بالكهف من غير بسملة، أي نطق بسم الله، فيما يسمى بقراءة "حمزة"، أو وصلهما مع ذكر بسم الله.
مع كل قراءة لي في كتاب الله عز وجل أشعر أنني على شاطئ بحر لم أرَ له نهاية، بحر من العلم والمعرفة والتعرف مع كل رحلة جديدة مع القرآن الكريم، بحري شجعني على تعلم العوم لكي أغوص لأرى الشعب المرجانية التي ستضيء حياتي القادمة؛ لأني بلا شك إنسانة جديدة ذاقت حلاوة الإيمان وتدبر معانيه، فاللهم أعنّا على الوصول لشعب الإيمان الحق وفهم وتدبر آيات الذكر الحكيم والعمل بها، ومن ثم التشبه بخلق خاتم الأنبياء "كان خلقه القرآن الكريم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.