بُنيت لتصوير فيلم “الوصايا العشر” وأخفيت تحت الرمال.. قصّة المدينة المصريّة المفقودة في صحراء كاليفورنيا

تم النشر: 2023/03/03 الساعة 11:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/03/03 الساعة 11:14 بتوقيت غرينتش
المدينة المفقودة للمخرج سيسيل بي ديميل التي شيدها سنة 1923

في عام 1922، كان المخرج الأمريكي سيسيل دي ميل أحد أبرز نجوم هوليوود، فقد كانت أعماله السينمائية الأولى البذرة التي وضعت أسس مدينة السينما في العالم بنيويورك، ورغم ذلك، كان سيسيل بي ديميل يعاني من بعض الفشل والإخفاق ببعض أعماله، أراد سيسيل العودة إلى الأضواء من جديد عبر عملٍ سينمائي غير مسبوق، ووجد ضالته في فيلم "الوصايا العشر"، الذي يتناول فترة إقامة بني إسرائيل في مصر، وخروجهم منها مع نبي الله موسى -عليه السلام-، ومطاردة فرعون لهم.

وفقاً لشبكة BBC البريطانية، خطّط سيسيل بي ديميل لتصوير الحكاية التوراتية في مكان في مصر، ولكن عندما رفض رؤساء الاستوديوهات الفكرة المكلفة، قرر ديميل إعادة إنشاء البلد في منطقة مشابهة بأمريكا.

المدينة الفرعونية التي بناها سيسيل بي ديميل في كاليفورنيا

أمضى سيسيل بي ديميل أربعة أشهر في البحث عن المكان المثالي لفيلمه "الوصايا العشر" قبل أن يستقر سنة 1923 على صحراء كاليفورنيا، وبالتحديد على موقع يسمى "محمية الحياة البرية في غوادالوبي"، كموقع لتصوير ملحمته الصامتة "The Ten Commandments – الوصايا العشر".

ورغم أنه كان سيستمر في إخراج نسخة أخرى من القصة بعد أكثر من 30 عاماً، إلا أن النسخة الأولى هي التي تأسر خيال علماء الآثار وهواة الأفلام. 

المدينة المفقودة سيسيل بي ديميل
بنى المخرج الأمريكي سيسيل بي ديميل مدينة فرعونية من أجل تصوير فيلمه الوصايا العشر / مواقع التواصل

كانت الأرض التي اختارها للتصوير مملوكة في ذلك الوقت لشركة Union Sugar، وأُجِّرَت الأرض لديميل مقابل مبلغٍ من المال مع شرط أنه سيترك الكثبان الرملية تماماً كما وجدها بمجرد اكتمال الإنتاج. 

ومع تسوية الموقع، بدأ ديميل في بناء مجموعة تعتبر استثنائية لوقتها، حيث وظَّفَ مواهب الرسام والمصمم الفرنسي المعروف بول إيريب.

اتفق ديميل مع شركة بارامونت لإنتاج الفيلم، وتم رصد ميزانية ضخمة له، حيث رأى ديميل أن الفيلم يحتاج إلى مجموعة كبيرة من المؤثرات الخاصة، ووجد أن تصميم مدينة مصرية كاملة هو الطريقة الوحيدة لنقل المُشاهد بصريّاً إلى سيناء في زمن النبي موسى -عليه السلام-.

كان تجسيد مدينة فرعونية في وسط صحراء كاليفورنيا مكلفاً للغاية، فقد استعمل سيسيل نحو 550 ألف قدم من الخشب و300 طن من الجص و25 ألف رطل من المسامير المستخدمة لبناء المدينة الفرعونية التي صممها الفنان Paul Iribe، والتي كان عرضها 800 قدم وطولها 120 قدماً تقريباً، وكانت تتسع لـ3500 ممثل، و5 آلاف حيوان، المستخدمين في التصوير.

كما قام Paul Iribe بإنجاز عدة تماثيل ومعابد تحاكي ما كان من آثار في مدينة الجيزة المصرية.

كانت القطعة الرئيسية لـPaul Iribe هي المعبد المصري الهائل الذي مزج الزخارف المصرية مع جمالية أنيقة من عشرينيات القرن الماضي، والذي كان يبلغ ارتفاعه حوالي 120 قدماً وعرضه 720 قدماً، وكان الهيكل محاطاً بـ21 تمثالاً لأبي الهول يُعتقد أن وزن كل منها بضع مئات من الأرطال. 

في ذلك الوقت، كانت "مدينة الفرعون"، كما عُرفت المجموعة، أكبر مدن أفلام شُيِّدَت على الإطلاق. 

بالإضافة إلى المجموعة، أنشأ ديميل أيضاً "مخيم ديميل"، وهو مدينة من الخيام للممثلين وطاقم العمل. 

سيسيل بي ديميل قام بإخفاء مدينته تحت الرمال!

عندما انتهى الإنتاج، واجه ديميل مشكلةً تمثلت في كيفية الوفاء بوعده لشركة Union Sugar، بـ"ألا يترك أثراً". ورغم أن بعض القطع الثابتة والدعائم قد سُرِقَت من قِبَلِ السكان المحليين لاستخدامها كزخارف في الحديقة وما شابه، بقي المعبد والعديد من تماثيل أبي الهول، إلى جانب الدعائم الأخرى. كانت كل تلك الأشياء كبيرة جداً وإعادتها إلى لوس أنجلوس مكلفة للغاية، وأصر ديميل، على أنه من المفيد للغاية ترك صانعي الأفلام المنافسين لاستعارتها، وتقول الأسطورة إن المخرج أمر ببساطة بدفن جميع بقايا الحدث في الرمال.

هناك، ظلت كل هذه البقايا كما هي، دون أن يمسها أحد، حتى الثمانينيات من القرن الماضي، عندما بدأ زوج من المحققين الهواة رحلة هائلة إلى هناك. 

في سبتمبر/أيلول 1982، كان بيتر بروسنان كاتباً وصانع أفلام أمريكياً، وقد دُمِّرَت أعماله في كلا المجالين في حريق منزل. وهرباً من الحريق، انتقل إلى منزل صديق وزميل مخرج وعاشق لأعمال ديميل، وهو بروس كاردوزو. 

في إحدى المرّات قام كاردوزو بمشاركة مقطع فيديو قصير للسيرة الذاتية لسيسيل بي ديميل يتحدث فيه سنة 1959، حيث أكد المخرج الهوليوودي أنّه دفن بقايا فيلمه "الوصايا العشر" بشكل غامض.

يذكر ديميل في سيرته: "إذا حدث، بعد ألف عام، أن قام علماء الآثار بالحفر تحت رمال غوادالوبي، آمل ألا يندفعوا إلى الاستنتاج بأن الحضارة المصرية امتدت إلى ساحل المحيط الهادئ في أمريكا الشمالية… دُفِنَت تماثيل أبي الهول التي سيجدونها هناك عندما انتهينا منها". 

فيلم وثائقي يكشف ما تبقى من مدينة سيسيل بي ديميل المفقودة

مباشرة بعد علمه بإخفاء سيسيل مدينته، شرع بروسنان في جهود طويلة لاكتشاف المدينة المفقودة لسيسيل بي ديميل في صحراء كاليفورنيا، تمّ تأريخ جهود المخرج السينمائي بيتر بروسنان على مدى ثلاثة عقود في الفيلم الوثائقي لعام 2016 "مدينة سيسيل بي ديميل المفقودة".

وبالفعل لم يمض وقت طويل من بدايته للبحث عن المدينة المفقودة، حتى عثر على أول قطعة أثرية لها، كانت في الحقيقة جزءاً من تصميم الحصان من صرح المعبد.

المدينة المفقودة سيسيل بي ديميل
تم اكتشاف جزء من المدينة المفقودة لسيسيل بي ديميل سنة 1990 / مواقع التواصل

قال بروسنان عن هذا الاكتشاف الأول: "لقد كان سحرياً! كان مثيراً! عالم الآثار هاينريش شليمان لم يكن من الممكن أن يكون أكثر حماسة مما كنا عليه". 

إدراكاً لما ستصنعه القصة من فيلم وثائقي رائع، بدأ بروسنان في إجراء مقابلات مع طاقم العمل وأعضاء فريق التمثيل الباقين على قيد الحياة، وقبل فترة طويلة انضم إليه فريق من المتطوعين الذين أرادوا المساعدة في حفر الموقع.

في محاولة لإجراء تنقيب أكثر رسمية، تقدم بطلب للحصول على تصاريح من مدينة سانتا باربرا. ما تبع ذلك هو قصة امتدت 30 عاماً من الانتصارات وخيبات الأمل طويلة جداً بحيث لا يمكن تأريخها بالكامل، ولكن يكفي القول إن الفريق قد حصل في النهاية على إذنٍ بالتنقيب. 

في عام 1990، استعاد بروسنان، هذه المرة مع فريق بقيادة عالم الآثار الدكتور جون باركر، أجزاءً من الكتابة الهيروغليفية والنقوش البارزة من واجهة المعبد، بالإضافة إلى قطع من الأزياء.

سرعان ما تمّ اكتشاف بعض الأدلة عن الحياة اليومية للمخيم الذي أنشأه ديميل، بحيث عثر على زجاجات شراب السعال الذي كان الطريقة المشروعة للالتفاف على الحظر على الكحول من قبل الممثلين في الفيلم. 

بعد فترة وجيزة، بدأ بروسنان في تسويق مقطع من فيلمه الوثائقي، لكن الموزعين المحتملين أخبروه أنه من أجل بيعه سيحتاج إلى اكتشاف رأس أبي الهول لتكون لديه فرصة لبيع فيلمه. 

لتحقيق هذا الهدف، دخل بروسنان في شراكة مع شركة Applied EarthWorks للتنقيب عن الآثار، ومنذ حوالي 10 سنوات، كشف الفريق النقاب عن السمات المهمة لأحد رؤوس أبي الهول. 

وساعدت مرممة الآثار إيمي هيغينز في ترميم الوجه وتجميعه معاً، واليوم، يمكن لزوار محمية الحياة البرية في غوادالوبي رؤية الاكتشاف الرائع، الذي أطلق عليه الآن بشكل غير رسمي اسم "نورا"، وهو اسم جدة المدير التنفيذي السابق للمحمية، شخصياً. 

مازال جزء من مدينة سيسيل بي ديميل مفقوداً تحت الرمال

بعد الانتهاء من فيلمه، أنهى بروسنان مغامرته التي استمرت 30 عاماً تقريباً دون أن تكتشف جميع آثار المدينة المفقودة، ولكن في عام 2017، انطلق فريق من علماء الآثار ومُرممي الفنون وموظفي المحمية مرة أخرى للتنقيب عن المزيد من القطع الثابتة. 

وكان من بين اكتشافاتهم رأس آخر لأبي الهول معروض الآن بشكل بارز في المتحف.

يلاحظ بروسنان أنه رغم أن الرمال تُعد مادةً حافظة مهمة، إلا أن الطبيعة ليست كذلك، وبالتالي فإن الوقت هو جوهر الأمر.

المدينة المفقودة سيسيل بي ديميل
لا تزال المدينة المفقودة لسيسيل بي ديميل مدفونة تحت الرمال / مواقع التواصل

قال بروسنان: "لقد حدد علماء الآثار أن الكثبان الرملية الكبيرة التي تضم معظم القطع الأثرية تتآكل بمعدل سريع للغاية". 

ومع ذلك، فهي وظيفة يجب أن تنتظر المحترفين الآن، حيث لم يعد يُسمح للهواة بالحفر في المنطقة. حتى ذلك الحين، ما تبقى من "المدينة المفقودة" لديميل لا يزال تحت الرمال، في انتظار الكشف عنه.

تحميل المزيد