على بعد 200 كيلومتر عن العاصمة أنقرة، وعلى قمة جبل في ولاية كاستمونو، تقع "قرية تونسلار"، وعند زيارتها قد لا تبدو القرية مختلفة عن أي قرية تركية أخرى، لكنك ستلاحظ وجود شيء مختلف، وهو انتشار الأعلام التونسية في كل مكان من القرية إلى جانب العلم التركي.
وفي مقبرة القرية ستجد قبوراً كتب على شواهدها باللغة العربية أسماء جنود تونسيين، فما هي قصة هذه القرية التونسية في تركيا؟
حرب القرم وعلاقتها بتأسيس "تونسلار"
بسبب الخلاف بين روسيا وفرنسا حول امتيازات الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية في الأماكن المقدسة بفلسطين، طالبت روسيا السلطان العثماني بالاعتراف بالقيصر الروسي حامياً للرعايا الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وهو ما رفضه السلطان العثماني.
بينما واصلت الإمبراطورية الروسية تفكيك الدولة العثمانية من الداخل، عبر دعمها لثورات الشعوب السلافية في البلقان.
أمر القيصر الروسي نيكولاي الأوّل عام 1853، جيشه المكون من 35 ألف جندي، بالزحف والهجوم على إمارتي مولدافيا وفالاخيا (رومانيا حالياً)، لتقصف المراكز العثمانية في البحر الأسود. لتندلع حرب القرم، بعد أن حشد كل من الدولة العثمانية وروسيا قوات ضخمة على جبهات القتال.
وبأمر من "أحمد باي" حاكم تونس وقتها، شاركت تونس في هذه الحرب بجيشٍ قوامه 15 ألف جندي، وتدعمه سفن حربية هجومية كانت جميعها من صنعٍ تونسي.
كان الهدف الأساسي لأحمد باي من هذه المشاركة استعراض جيشه الجديد أمام الفرنسيين وإبراز قوّته وقدرته على الدفاع عن البلاد في حال تمادت فرنسا في أطماعها وأرادت احتلال تونس، كما فعلت مع الجزائر سنة 1830. وأيضاً بسبب العلاقات بين تونس والدولة العثمانية.
وإضافة إلى التونسيين شارك جنود من مصر ودمشق والجزيرة العربية والمغرب، فألحق العثمانيون وحلفاؤهم الهزيمة بالجيش الروسي، وأبلى الجنود التونسيون بلاء حسناً، واستشهد عدد منهم، وحصل حاكم تونس على فرمان من الباب العالي، لا يزال محفوظاً بالأرشيف الوطني التونسي، وفيه يثمّن الباب العالي المشاركة التونسية في حرب القرم.
جنود ضلوا طريقهم أسسوا قرية تونسلار
بعد انتهاء الحرب عام 1856، عاد من تبقى من الجنود التونسيين إلى إسطنبول ومنها إلى تونس، بينما تذكر بعض المصادر أن مجموعة من الجنود ضلوا طريقهم حتى وصلوا إلى ولاية كاستامونو، وعلى ارتفاع 1400م بين المرتفعات الجبلية، وكان الفصل وقتها شتاء، عزلتهم الثلوج وقطعت طريق عودتهم.
لذا قرروا إنشاء قرية لحين زوال الثلوج، لكنهم غيًروا رأيهم لاحقاً وقرروا الاستقرار بشكل دائم في المنطقة، وتزوجوا من سكان القرى المجاورة، فأطلق السكان على قريتهم اسم "تونسلار" الذي يعني باللغة التركية "التونسيون".
أما الرواية الثانية فتفيد بأن بعض الجنود التونسيين الذين نجوا من المعركة، قرروا البقاء في تركيا بإرادتهم، وتكريماً لهم قرر السلطان العثماني منحهم قطعة من الأرض ليستقروا عليها، وهي قرية تونسلار، وإلى هذا اليوم ما زالت تسمى باسمهم ويرفع فوق بناياتها العلم التونسي.
بالنسبة لسكان القرية اليوم فرغم أنهم ينحدرون من أصول تونسية، فإنهم جميعاً مواطنون أتراك، ويتحدثون اللغة التركية، لكنهم يحافظون على بعض العادات والتقاليد التونسية التي توارثوها عن أجدادهم، وأيضاً يحافظون على رفع العلم التونسي إلى جانب العلم التركي، ويوجد في القرية قبور الجنود التونسيين، وأشهرها قبر قائدهم محمد التونسي.
الصداقة التونسية التركية في قرية تونسلار على مستوى رسمي
شهدت قرية تونسلار في عام 2010، زيارة السفير التونسي لدى تركيا، مع مجموعة من المسؤولين الأتراك؛ للاحتفال بالصداقة التونسية التركية، وتم حينها بناء نقطة "مياه سبيل" على مدخل القرية، وزيارة قبر القائد "محمد التونسي".
في ذلك اليوم صرح نائب كاستامونو، موسى سيفاتشي أوغلو، بأن "هناك علاقات عميقة الجذور بين تركيا وتونس عبر التاريخ، ويسعدني أن نرى ذلك ينعكس في كاستامونو".
أما والي كاستامونو، مصطفى قرة، فقال في خطابه الذي بدأه بملخص تاريخي قصير عن الشخص الذي أعطى الحدث اسمه: "خلال حرب القرم التي بدأت عام 1853، استهدف الجيش العثماني الروس بكتائب من أنقرة وجانكيري وقيصري، وجنود من مصر ودمشق والجزيرة العربية والمغرب وتونس، وبعد حرب القرم استقر جنود من المغرب وتونس في هذه المنطقة".
وتابع مصطفى قرة، قوله: "محمد التونسي أفندي كان مفتوناً بهذه الأرض، وبناءً على إرادته، مكث في هذه المنطقة، كقائد تونسي شارك في حملة حسام الدين كوبان بالقرم".