"ماذا كنتم تأكلون على مدار 72 يوماً في هذا المكان الخالي من البشر والحيوان والشجر"؟
ظل هذا السؤال يتردد كثيراً من فرق الإنقاذ وهم يسعفون الناجين من تحطم الطائرة الأوروغوانية في إقليم ملارغي بين الحدود الأرجنتينية الشيلية، دون أن يتلقوا إجابة شافية.
كان موقع تفتت الطائرة شبيهاً ببقعة منسية في سقف العالم، مغطى بكتل من الثلج والجليد، ولا أثر للحياة فيه.
نجونا بفضل الجبن الذي كان بحوزتنا.
هكذا رد بعض الناجين، ولم تكن إجابة مقنعة قط، خاصة أن الـ16 المتبقين من أصل 45 راكباً، كانوا يعانون إلى جانب الإعياء الفتاك، والهزال الذي أفقدهم 30 كيلوغراماً لكل فرد، من قلق غير منسجم مع فرحتهم بالخلاص.
بدت الجثث كما لو أنها خضعت لعملية ترميم غامض، تلا نهشاً مسّ مواطناً في السيقان والأطراف والأكتاف والأوراك.
وقد كان وارداً أن يعزى الفعل إلى ذئاب، لولا أن الجميع يعلم أن هذا المكان خال من النبات والماء، وتعافه الحيوانات، ولا وحوش تمرح فيه غير هؤلاء الناجين من الموت بطريقة بدت مستحيلة وأقرب إلى المعجزة.
دُفنت الأشلاء بحضور قس كاثوليكي، ظل بدوره يسأل عن كيفية نجاة الأحياء من برزح ميت يقع على علو 4000 متر. ولعله شكر الرب على حدوث معجزة، بدأت بلعنة في الجمعة 13، وانتهت على بُعد أيام من أعياد الميلاد.
لاحقاً سيصحو العالم على واحدة من أكبر الصدمات التي هزت العقل البشري في القرن الحادي والعشرين.
1/ رحلة الطائرة السعيدة في يوم الشؤم العظيم
بلا ريب كان الجو بهيجاً وحميمياً في الرحلة رقم 571، داخل تلك الطائرة، وهي تقلّ صباح الجمعة 13 أكتوبر 1972، 45 شخصاً، من مونتيفيديو إلى سانتياغو الشيلية.
جل الركاب طلبة جامعيون، أعمارهم بين 19 و25 سنة، ينتمون لفريق الريغبي "أولد كريستيانز"، أما السفرية فكانت من أجل لعب مباراة العمر ضد فريق شيلي. سمحت إدارة الفريق لأوليائهم وأقاربهم وأصدقائهم بمرافقتهم من أجل التحفيز، فدعا بعضهم أمهاتهم وشقيقاتهم، وأمل كبير يحدوهم في تحقيق الفوز ومقاسمة أهاليهم تلك اللحظة المؤثرة.
وطبعاً تعالت الأهازيج والهتافات احتفاءً بآخر راكبة من خارج بعثة الفريق، وكانت السيدة غرازييلا مارياني، التي أسعفها الحظ للتسجيل في آخر مقعد، كي تحضر زفاف ابنتها في سانتياغو.
وأما ربان الطائرة، فيرشيلد فوكر 227، فكان متوتراً داخل قمرة القيادة، منذ اللحظة التي تهاطلت عليه تنبيهات أبراج المراقبة: "هبوب عاصفة جوية وثلجية فوق سلسلة جبال الأنديز".
لم يتردد قائد الطائرة، الحريص على حياة الركاب، في الهبوط القسري في مطار مندوزا الأرجنتيني، على أمل التحليق من جديد، حالما تنتهي العاصفة، خاصة أنه يطيّر برحلة في يوم الشؤم العظيم: الجمعة 13.
بعد الزوال كان يغير مسار الرحلة باتفاق مع برج المراقبة، فطار باتجاه كاريكو لينعطف نحو سانتياغو، بيد أن المعلومات الإحداثية التي قدمها مساعده لم تكن دقيقة، فانجر عنها سوء تصرف، استفحل مع سوء تقدير سرعة الرياح.
وعقب فترة من الزمن قرر تخفيض ارتفاع الطائرة، ظاناً أنه تجاوز المرتفعات الجبلية الشاهقة لسلسلة جبال الأنديز، المتطاولة بين 4000 و6000 متر.
ولجت الطائرة مضطرباً جوياً عنيفاً أفقدها التوازن، قبل أن تتخلخل ويرتطم جناحها الأيمن بقمة متخفية بين السحب، ثم انخلع جناحها الأيسر وهو يصدم بجبل آخر، ففقدت ذيلها وبه عدد من الركاب، ثم هوى الجسم فوق منحدر جبلي قبل أن ينزلق على طول كيلومترين ونيف، ولولا طبقة الثلج الكثيف، التي حبست الهيكل المدحرج، لصار بمن فيه عجينة من حديد.
تبدت الحصيلة الأولية دموية، عندما عدّ الناجون اثنا عشر قتيلاً، بينهم جثث قائد الطائرة ومساعدوه، وبعض اللاعبين، وخينيا والدة اللاعب فرناندو بارادو الشهير بناندو، وشقيقته سوزي، والسيدة المحظوظة التي خذلها الموت في أن تلحق بعرس ابنتها.
اعتقد الناجون أن المأساة وقعت وقُضي الأمر، وبأن فرق الإنقاذ ستتقاطر عليهم في مقدم الساعات أو في غضون يومين على الأقل، غير أنهم فُجعوا على مر الساعات التي قضوها اختباء في الهيكل المنكوب، بأنهم وقعوا في خلاء جبلي، يقع على علو 3600 متر، ولا نبات فيه ولا طعام ولا حيوان ولا ماء، مع ما يصحب ذلك من نقص الأوكسيجين، ودرجة حرارة تنحدر، ليلاً، إلى ما دون الأربعين مئوية.
واجه الناجون مشكلة برد قاسية، إذ كانوا كلهم بألبسة خفيفة، فعمدوا، أولاً، إلى ضمان تدفئة الأجساد بكل ما أُتيح لهم من لباس وقش الكراسي الممزقة، قبل أن يهتدوا لاستئصال المادة العازلة من بطن جسم الطائرة، واستعماله كأكياس نوم حذر الموت من البرد.
لم يكن طعام البقاء غير قطع بسكويت، وخمور وشوكولاتة، ما ألزمهم باتباع نظام تقنين، لا يتعدى جغمة نبيد مسكوبة في غطاء زجاجة، وحبة شوكولاته في الوجبة الواحدة. ولأن الماء ضرورة سيهتدي زميل لهم إلى فكرة تذويب الثلج على صفائح معدنية اقتطعها من مقاعد الطائرة، وعرضها تحت أشعة الشمس.
لم يكن بوارد الموت عطشاً في جبال من الماء المتجمّد، لكن الجوع في قلب البرد، سيدفع بهم إلى حافة الهذيان، بعد تلقي أول جرعة يأس حقيقية، عندما سمعوا عبر راديو بأن عمليات البحث والإنقاذ التي أطلقتها السلطات الشيلية قد أوقفت في اليوم الثامن، لعدم الجدوى.
كما لو أنها البارحة يروي الناجي كارلوس باييز، لوكالة فرانس برس، الشعور الممزق: " أقسى ألم شعرنا به كان يوم أُعلن عن وقف عمليات الإنقاذ، وقتها أحسست بأن العالم سيستمر من دوننا".
2/ صوّتوا لأكل أصدقائهم بديمقراطية وجثة قائد الطائرة أول مأدبة
ولمّا شعر المتبقون بأنهم صاروا قبيلة معزولة عن العالم، وأن العالم لم يعد يأبه لوجودهم قرروا البقاء أحياء لأقصى زمن ممكن، كما تولّد فيهم شيء من التحفيز، وقد صحت فيهم، فجأة، غريزة البقاء.
وإن أخطر شيء واجههم ولم يقدروا على درئه هو الجوع الكافر في الجحيم البارد، وهذيان الجوع سيدفعهم إلى الرغبة في أكل نعال أحذيتهم، وأعقاب السجائر، ومعجون الأسنان، وجلد الكراسي، وإذ بدأ الطعام اليسير ينفد في أيام، حتى بدأت تراودهم فكرة خارقة للعقل والضمير.
وقبل المرور إلى الحد الأقصى للجنون المعقلن، الذي يعرف الإنسان بأنه "ذئب لأخيه الإنسان" مثلما يقول هوبز، التفت بعضهم إلى جثث رفاقهم، وكانت لحماً بشرياً محفوظاً بين الثلوج، ولأن كل واحد منهم فكر في المحظور الذي ليس منه مفر، فقد تقرر حسم "الطابو" الأخير بجلسة، دامت ساعات من النقاش الديني والطبيعي، انتهوا فيه إلى آخر سلالات آكلي لحم البشر في القرن العشرين. وأي بشر؟ إنهم رفاقهم وأهلهم، فتم التسويغ لاقتراف الخطيئة القسرية بأكثر الطرق الديمقراطية، عندما صوّتوا بالأغلبية لانتهاك الأبدان النيئة.
وحتى في خضم جنون الرغبة في البقاء بأبشع الطرق تعاسة ستكون هناك اعتبارات أخلاقية، إذ اشترط ناندو بألاّ تُلتهم أمه وشقيقته، ثم عمد البقية إلى البدء بأكل جثث الأبعد من الناحية العاطفية، ولم يكن الغريب الأبعد سوى العقيد خوليو سيزار، قائد الطائرة الذي ظل حريصاً على سلامة من راحوا، الآن، يقطعون لحمه بزجاج نوافذ الطائرة، ويصففون الهبر الموفرة للبروتين والدهون.
تردد بعضهم أول وهلة، بيد أنهم انغمسوا في الوليمة بدافع الجوع الفتاك ونداء الكينونة، ومنذ تلك اللحظة سيغدو أمر تقطيع اللحم على شكل شرائط وأفخاذ وشرائح، تحفظ في الجوارب أمراً مألوفاً، للغاية، ثم مملاً بعض الشيء، بدافع روتين النظام الغذائي غير المألوف.
3/ ناندو بارادو نجا من الموت مرتين قبل أن يكتشف رغبة الحياة في جثة شقيقته
لكل قصة ولو كانت مأساة إغريقية بطل. وبطل لاحمي البشر هنا، هو طالب الطب، ولاعب الفريق فرناندو بارادو المكنى "ناندو". عمره 21 سنة، لكنه بحيوية كهل فوق الأربعين، بأن ظل الشمعة المتقدة في الدهليز الطويل.
إشارات كثيرة جعلت ناندو يعتقد أنه يسوع الخلاص الأخير، فقبل الكارثة بلحظات كان غيّر مقعده مع زميله بانشيتو برغبة هذا الأخير، ليستمتع بالمنظر عبر كوة النافذة، فلقي حتفه بسبب تبديل المكان.
أما ناندو فأُصيب بجروح أفقدته وعيه، وقد ظن الجميع أنه هلك، فتُركت جثته في العراء في الليلة الأولى قبل أن يُكتشف، في اليوم التالي أنه على قيد الحياة.
ظل بعد مقتل والدته، متعلقاً بشقيقته سوزي التي كانت تكابد الآلام العنيفة قبل أن تهلك، فبكاها بشدة مستلهماً منها أكبر درس في حياته: يقول "إن قوة التشبث بالحياة التي طالعتها في عيني سوزي، حفزت فيّ الرغبة في البقاء على قيد الحياة".
كان الوحيد الذي يعتقد بأن الأمل في النجاة وارد، فيفحص الخرائط ويتعرف على الاتجاهات بحثاً عن طريق للسير بحثاً عن البشر، بدل انتظار من لن يأتوا إليهم أبداً.
يخبر زملاءه "بيننا وبين النجاة جبل"، فتتشكل أولى بوادر رحلة البحث عن المخرج، ربما كان حافزه في تلك المغامرة المحفوفة بالموت، أهون عليه من أن يرى نفسه يلتهم لحم أمه وشقيقته، أو يتفرج حياً في زملائه وهم يتناولون يد والدته وورك أخته.
وهو أنقذ، يوم 29 أكتوبر، رفاقه عندما طمرهم انهيار جليدي في حطام الطائرة لثلاثة أيام، وصحيح أنهم صاروا 16 متبقياً، بعدما خلف الحادث 12 ضحية، لكنه صار رمز التحرير لمّا أحدث ثقباً بواسطة مسلة حديدية، سامحاً بتسرب الهواء للداخل، ثم البدء في حفر نفق ألقى بهم خارج التابوت المتجمد.
4/ المنقذان حملا لحوم رفاقهم في جوارب وقطعا 110 كلم في 10 أيام
أمام ساعة الخطر والشعور بأن لا منقذ لهم أحد سواهم، تولد تضامن طبيعي بين الـ16 نفراً، فتقرر إراحة ناندو بارادو وروبرتو كنيسا من كل الأشغال اليومية، ومنحهم وجبات زائدة من اللحوم، وتمكينهم من اللباس الإضافي، قبل بدئهم مغامرة خطرة في الصعود إلى أعلى القمة الواقعة على علو 4500 متر، فالسير قدماً نحو قرى مجاورة، وطبعاً لم يكن أحد متفائلاً بنجاح المحاولة، لكنها كانت أفضل من انتظار العدم.
سار الكشافان وهما يحملان جوارب محشوة بلحم رفاقهم المتوفين، مكابدين العواصف والمنحدرات والجبال، وقد شارفوا على الهلاك عدة ليال، حينما نزلت درجة الحرارة ما تحت الأربعين، ولولا أنهم عثروا على ذيل الطائرة في موقع بعيد، كان ملاذهم الأخير في الاحتماء من البرودة الشديدة، لقضوا تحت الجليد. لم تخلُ الرحلة من يأس كان يطردهم بالعودة إلى الوراء، وسرعان ما عثروا على ذيل الطائرة المنفصل، فصنعوا بمادته العازلة كيس نوم للإيواء.
تلاشت آخر فرصهم بعد تجاوز الجبل فلم يعثرا وراء الحاجز المرتفع بزهاء 5000 متر على البرازيل، كما كانوا يعتقدون، بل على عالم آخر من الجبال العائمة في قفار من الثلوج.
انهار الرفيقان، لكن ناندو ألح على المسير حتى جاء اليوم العاشر، وأمام نهر لمح شبح رجال يمتطون خيولاً، ربما كانوا أشباحاً صورهم له اليأس القاتل، لكن واحداً من تلك الأشباح توقف بفرسه ليلقي تجاههم نظرة كانت طوق النجاة.
ولصعوبة التواصل بسبب هدير المياه، أرسل لهما الرجل واسمع سيرجيو كاتالان، قطعة خبز التقطاها من مجرى الوادي، قبل أن يدلق لهما ورقة وقلماً فوق حجرة سحبها ناندو اليه، قبل أن يكتب له رسالة، سارع سيرجيو إلى التقاطها ليقرأ "مفقودو الطائرة المتحطمة منذ شهرين".
في اليوم التالي كانت السلطات الشيلية ترسل عوامات لإجلاء المفقودين إلى القرى القريبة، وقبل ذلك لجأ الناجون إلى ترميم جثث رفاقهم وتجميعها، كي لا يتفطن أحد إلى حجم الخطيئة، بدوا متوترين من أن يقول كل واحد منهم "نجوت بأكل صديقي"، فتتحول تهنئتهم على النجاة إلى لعنة البقاء على أشلاء الزملاء، لذلك تعاهدوا على حفظ السر الذي لن يفصح عنه لغير أهاليهم بعد العودة إلى الأوروغواي.
اقشعرت الأبدان واهتزت العقول، عندما كشف الناجون سر بقائهم أحياء، فقدّموا اعتذارهم لعائلات رفاقهم، وأنجدتهم الكنيسة بفتوى أرجعت ارتكاب المحظور تحت طائل الضرورة، تلك التي تبيح المحرمات وتميط اللثام عن العنف القسري لغريزة الحياة لدى الإنسان.
تحولت لعنة الأنديز إلى عدة أعمال وثائقية وروائية وسينمائية، بينها الفيلم الشهير "الناجون" المنتج عام 1993.
ألف روبرتو كانيسا، الذي ترشح للانتخابات الرئاسية في الأوروغواي، العام 1994، وقد أصبح دكتوراً وسياسياً، كتابه حول القصة "كان عليّ أن أبقى على قيد الحياة"، أما ناندو بارادو الذي التزم الصمت مدة 30 عاماً فقد أصدر في 2006 كتابه "معجزة الأنديز"، وجلب له ذلك شهرة عالمية باعتباره واحداً من أكثر المتحدثين في مجال التحفيز على قيمة التشبث بالحياة، وعدم الفشل.
في يوم 22 أكتوبر من كل عام يجتمع الناجون لتخليد ذكرى نجاتهم، والصلاة لأرواح رفاقهم الغائبين، رغم أن بعضاً منهم دُفن في بطونهم إلى الأبد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.