لا تُعد الماشية في جنوب السودان مجرد مصدر للغذاء وكسب الرزق من خلال عمليات البيع والشراء فحسب، بل تُعد جزءاً أساسياً من الزواج، حيث يُقدمها الرجل كمهر للفتاة التي ينوي الزواج بها، وكثيراً ما تمثل عائقاً بسبب الارتفاع الكبير في أسعارها التي لا يتحملها أصحاب الدخل المحدود.
صحيفة The Times البريطانية، وصفت في تقرير نشرته الأحد 25 ديسمبر/كانون الأول 2022، الماشية بأنها "عملة الزواج" في جنوب السودان، وتحدثت عن "داو دينغ"، الذي أمضى السنوات العشر الماضية وهو يحاول مرة تلو الأخرى أن يبلغ الزوجة المناسبة.
لكن سبباً واحداً خيَّب مساعيه في كل مرة، وهي الماشية، أو بالأحرى افتقاره إليها، فصديقتان له من خريجات الجامعة تزوجتا على مضض من رجلين آخرين، لأنه لم يستطع أن يدفع لأيهما مهرها الذي بلغ عدداً هائلاً من الأبقار والثيران.
تُعد المواشي في جنوب السودان مفتاح الثروة والأمن والاستقرار والزواج، ومن ثم فإن جمعها وتربيتها ورعايتها أبرز الأعمال للحياة في المجتمعات الرعوية من هذا النوع.
تُشير الصحيفة إلى أن التاريخ الحديث لجنوب السودان بعد الانفصال عن الشمال في عام 2011، ثم الحرب الأهلية واتفاق السلام الهش عام 2018، غلبت عليه الاضطرابات العنيفة والكوارث الطبيعية التي دمرت كثيراً من الضوابط والقواعد التي كانت تحفظ توازن هذا المجتمع وبقاءه.
لذا يعاني سكان هذه المناطق نقصاً حاداً في الأمن الغذائي، تفاقمت وطأته بسبب الصراع وسوء الإدارة والفيضانات، لكن البعض استفاد من هذه الفوضى، وبحسب الصحيفة تمكنت أقلية عسكرية وسياسية محدودة، من استغلال الحرب وموجات النزوح الجماعي لتكديس قطعان لا حصر لها من الماشية، فبات لديهم ثروة وقوة هائلتان وحصانة فعالة للتهرب من أي عقوبات دولية، لأن هذه الأصول تتحرك بعيداً عن متناول النظام المصرفي.
فلورا ماكرون، الباحثة المتخصصة في الصراع الرعوي بالقرن الإفريقي، قالت إن هؤلاء الأثرياء "هم بعض عشرات من الرجال يستخدمون قطعان الماشية مثل الحساب المصرفي، ويستعينون بها لرفع مكانتهم، على نحو ما يفعل الغربي بشراء أساطيل السيارات الفارهة".
عندما يرغب هؤلاء في الزواج، سواء كان للمرة الأولى أو غير ذلك، فإنهم مستعدون لإنفاق مهور باهظة من الماشية، لكن ذلك نتج عنه تضخم هائل في التكاليف بسوق الزواج، حتى إن قيمة الماشية في مهور بعض النساء ذوات المواصفات الخاصة، وصلت إلى مئات الآلاف من الدولارات. وعادةً ما تتضمن المعايير طول المرأة ومستوى تعليمها وحسبها ونسبها.
في هذا العام، تقدَّم رجل أعمال يتجاوز عمره الخمسين للزواج من فتاة عمرها 17 عاماً وقدم لأهلها مهراً مقداره 500 رأس من الماشية و3 سيارات فاخرة و10 آلاف دولار ومجموعة من الهواتف المحمولة.
كانت الفتاة زوجته التاسعة، وقد أدانت منظمات حقوقية الزواج، وقالت إن الفتاة بيعت في مزاد علني، والأمر ينطوي على جريمة إساءة معاملة للأطفال.
كان متوسط المهور في بعض المناطق بجنوب السودان، قد زاد خلال العقد الماضي من نحو 10 رؤوس ماشية إلى 60 رأساً، وكل رأس ماشية يتفاوت ثمنها من بضع مئات من الدولارات إلى عدة آلاف.
تقول The Times إن "بعض الناس مستعد لدفع أي ثمن تقريباً للثور المناسب"، إلا أن الناس العاديين لا يطيقون إنفاق هذه المبالغ ولا يستوعبون الأمر، بل إن بعضهم اضطر تحت وطأة الارتفاع الهائل في أسعار الماشية إلى نهب ما يحتاج إليه منها لتقديم مهره وإتمام زواجه.
تيتاس، وهو راعي ماشية، يقول إنه يعرف كثيرين حملوا السلاح ليتمكنوا من الزواج، وفي السياق ذاته، تقول الباحثة ماكرون إن غارات سرقة الماشية لطالما كانت تحدث، إلا أن وتيرتها ازدادت بقدرٍ غير مسبوق، ويستخدمها بعضهم لإخراج خصومه من مناطق الرعي، وإضعاف القبائل الأخرى.
من جانبها، تقول قيادة البلاد إنها تسعى إلى خفض تكاليف الزواج، وفرض بعض القيود على المهور، وهذا الصيف حاول رياك مشار، النائب الأول لرئيس جنوب السودان، أن يضرب مثلاً بنفسه، فقبل 45 رأساً فقط من الماشية مهراً لزواج ابنته، بدلاً من 500 رأس كانت معروضة عليه، لكن مع ذلك فإن تأثير هذه المبادرات على المجتمع لا يزال محدوداً.
وفي ثقافة قبائل النوير والدينكا، أهم مجموعتين لمربي المواشي في جنوب السودان، يتم إطلاق أسماء على الأبناء الذكور، تصف ميزات الثيران المفضلة لدى الأسرة، وكتابة أغان تمجد هذه المواشي التي لها قرون طويلة مميزة، بحسب ما أورده تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية.
بينو شوير زعيم دينكا من مخيم أمادينغ خارج مدينة رومبيك (وسط) إحدى المناطق الأكثر تأثراً من أعمال العنف المرتبطة بسرقة المواشي، قال في تصريح عام 2019: "إذا كنت مريضاً يمكنك بيع بقرة وتستخدم الأموال للعلاج"، وأضاف: "إذا توفيت امرأة وتركت رضيعاً سيعيش، لأن حليب البقرة سيستخدم في تغذيته".
في 1940، كان المتخصص البريطاني في الأنثروبولوجيا إدوارد إفنز-بريتشارد يؤكد على هيمنة المواشي في أذهان الشبان، وهذا ما كان أحياناً يحبط الباحث، إذ كتب في أحد أبحاثه بعنوان "النوير" أنه "كنت أحياناً أشعر باليأس لعدم التمكن من التحدث مع الشباب إلا عن المواشي والفتيات. وحتى موضوع الفتيات كان يفضي إلى التطرق للماشية".