استمر حكم الإمبراطورية العثمانية لأكثر من ستة قرون، بين عامَي 1299 و1922، وامتدت رقعة الأرض التي بسطوا سيطرتهم عليها بين ثلاث قارات: أوروبا وآسيا وإفريقيا، وحكموا أكثر من 70 إثنية عرقية كانوا يتحدثون أكثر من 12 لغة مختلفة، وحكمت إمبراطوريتهم مساحة أكثر اتساعاً من الدولة البيزنطية، واستمرت لمدة أطول من الإمبراطورية الرومانية.
الإمبراطورية العثمانية والتجمعات البشرية
جذب الامبراطورية العثمانية تجمعات بشرية متنوعة وعرضوا عليهم الحماية، وهي فلسفة تمثل النقيض تماماً من مفهوم الدولة القومية المعاصرة.
الأدلة على عالمية المواطنة في دولتهم، والنهج الجامع يتجلى بوضوح حتى يومنا هذا في الإرث المعماري لمراكز المدن العثمانية في ربوع إمبراطوريتهم السابقة.
اعترفت منظمة اليونسكو بمدينة بورصة، أول عاصمة عثمانية، بأنها موقع تراث عالمي في عام 2014، وذلك بسبب "عملية تخطيطها المعماري غير المسبوقة وقيم المجتمع" التي عكستها.
وصارت نموذجاً لجميع المدن العثمانية التي شُيدت لاحقاً، فصُممت لخدمة الاحتياجات المجتمعية والتجارية والدينية والتعليمية والصحية للمجتمع من خلال ما يعرف بمجمع "الكلية"، حيث كان مسجد أولو جامع، أو الجامع الأعظم، محاطاً بالخانات والأسواق، بجانب المدارس والمستشفيات والحمامات وسبل المياه ومطاعم الفقراء.
في النظام العالمي العثماني، كان التجار والحرفيون الماهرون يحظون باحترام وتقدير كبير، اعترافاً بالقيمة التي يمنحونها لمجتمعاتهم ولخزانة الدولة من خلال الإيرادات التي يدرونها.
تكرر النموذج في العاصمة الثانية للعثمانيين في أدرنة، ثم في القسطنطينية "إسطنبول حالياً"، حيث لا يزال البازار الكبير يحتوي على 4 آلاف متجر متوزع على 61 شارعاً مغطى، كان نفس النهج المعتمد على المجتمع واضحاً في سلوكيات العثمانيين تجاه اللاجئين.
كان الإنصاف مبدأ إرشادياً بالنسبة للحكومة، استناداً إلى نظام "دائرة العدل"، حيث اعتمد السلطان والجيش والشعب بعضهم على بعض. اعترفت الدولة بأن بقاءها اعتمد على ازدهار رعاياها.
كما يعد المطبخ العثماني هو أساس ما يشار إليه عادة بـ"حمية البحر المتوسط الصحية"، مع وجود أسماء على شاكلة الزبادي والبقلاوة والكباب، التي تبقى شاهدةً على أصولها التركية.
في المطابخ الكبيرة لقصر طوب قابي، كان يُوظف 60 طاهياً يُنتدبون من جميع أنحاء الإمبراطورية بعد اختبارات مضنية. وكانت الوصفات الأكثر تعقيداً وتطوراً تبقى سرية، ولم تُدوّن قط، وتعتمد على المكونات الطازجة.
ثقافة القهوة والسلطنة العثمانية
كانت محال القهوة شائعة حول الإمبراطورية، حيث وصلت إلى العاصمة العثمانية في خمسينيات القرن السادس عشر عن طريق ميناء المخا في اليمن. وكان السلطان سليمان القانوني نفسه عاشقاً للمشروب، وهو الذي أسس الطقوس المرتبطة بشرب القهوة تحت مسمى وظيفة "صانع القهوة الرئيسي"، التي تضمنت الكؤوس الخزفية المطرزة المصنوعة بحرفية فريدة في أفران إزنيق وكوتاهية.
حسب "deraliyeterrace" انتشر شرب القهوة من إسطنبول إلى باقي أوروبا بعد أن أدى فشل حصار فيينا الثاني إلى تخلي الجيش العثماني عن كميات كبيرة من المؤن، بما فيها جوالات حبوب القهوة.
لم يعرف الأوروبيون كيف تطهى القهوة حينها باستثناء ضابط بولندي كان سجيناً سابقاً عند العثمانيين؛ إذ يعود إليه الفضل في منح القهوة الأسلوب المتعارف عليه حالياً في فيينا.
خلال سنة 1700، صار هناك حوالي 500 متجر قهوة في لندن، وكانت تعرف باسم "جامعات البنس"؛ لأن كوب القهوة كان سعره بنساً واحداً وكان يتيح الوصول إلى العقليات العظيمة في ذلك العصر، التي تناقش الموضوعات المهمة.
تشرب جميع دول البلقان فعلياً القهوة التركية في يومنا الحالي، وكذلك البلاد العربية، ويعاد تهيئتها بصور أخرى، مثل القهوة العربية والتركية والبلغارية والألبانية وغيرها، مع جميع طقوسها المألوفة المتعلقة بالصداقة وحسن الضيافة.
ثقافية الخيام الكبيرة والجلسات
من بين موروثات العثمانيين نجد الخيام الكبيرة التي تعد أسلاف السرادقات التي تُنصب في عصرنا الحالي، والتي جرى صقلها من القرون التي شهدت الهجرات البدوية وبوصفها مساحات متعددة الأغراض وتتمتع بمرونة كبيرة.
بعض من أفضل هذه الخيام كانت تُغطَّى بالخيوط المطرزة الحريرية والفضية والذهبية ذات الأبهة شبه المسرحية، التي تصور لوحات تشبه البلاط تعرض الحدائق الفردوسية المليئة بزهور التوليب، رمز العثمانيين.
كان الحكام الأوروبيون، ومن بينهم لويس الرابع عشر ملك فرنسا، من كبار هواة الخيام العثمانية، وصارت الخيام التركية موضة تُستخدم بوصفها أماكن لإقامة الحفلات الكبرى.
بالاضافة إلى الخيام لا تزال الأريكة المبطنة التي تحتوي على مساحة تخزينية داخلية، توصف بـ"العثمانية" في عصرنا الحالي، وكانت قطعة أثاث متعددة الاستخدامات؛ فعادة كانت غنية بالوسائد، وهو إرث بدوي آخر حيث يتوجب على قطع الأثاث أن تؤدي أكثر من غرض.
انتشار اللباس النسائي العثماني في روسيا
حسب "deraliyeterrace" كانت الملابس العثمانية في أوروبا مصممة لتكون مريحة ومرنة. فقد كانت ملابس النساء على وجه الخصوص متأثرة بالذوق العثماني والجانب العملي، حتى إن حفيدة الملكة فيكتوريا، ألكسندرا فيودوروفنا، آخر إمبراطورة لروسيا، كانت ترتدي قفطاناً فضفاضاً عند تتويجها في عام 1896، على النقيض تماماً من الفساتين المشدودة التي كان يرتديها الضيوف من المجتمع الراقي.
صار القفطان جزءاً من الثقافة التي انتشرت في الستينيات. أسفل الجلابيب الملونة، كانت النساء الأتراك يرتدين نفس السراويل الواسعة مثل الرجال، من أجل أن يستطعن القتال بجانبهم ويمتطين الخيول، بل وحمل الرضع بحزام فوق ظهورهن.
جلبت أولى النسويات السراويل إلى إنجلترا، بعد أن شاهدنها في الأراضي العثمانية، ومن هناك انتشرت إلى أمريكا، وصارت تسمى "بلومرز" على اسم أميليا بلومر، التي كانت مدافعة عن حقوق المرأة، وبعدها نُسيت أصولها العثمانية.
حتى المناشف، التي كانت منتشرة في الأصل في الحمامات التركية بوصفها قطعاً ذات حلقات ومصنوعة من القماش الذي يمتص المياه، فلم تصبح شائعة الاستخدام في الغرب قبل أن تتبنى صناعتها الشركة الإنجليزية Christy & Sons، بعد أن رأتها في البازار الكبير بإسطنبول، وتبنت تصنيعها في خمسينيات القرن التاسع عشر.