مع أكثر من 600.000 تعريف و2.4 مليون اقتباس في الإصدار المعاصر، تم إجراء الكثير من الجهد والأبحاث المضنية لكي يكتمل العمل على الشكل الرسمي لقاموس أوكسفورد الإنجليزي الذي صدر منذ ما يقرب 150 عاماً.
وسط كل المعارك والخلافات بين العشرات من طاقم التحرير الذين جمعوا تعريفات ومحتويات لهذه التحفة الفنية في جامعة أكسفورد، هناك جريمة قتل وشخص مجنون خلف إعداد القاموس الأهم، وقد كان على ارتباط مباشر بمكتب المدير التنفيذي للمشروع الأضخم من نوعه.
مشروع عملاق استغرق وقتاً استثنائياً لجمع اللغة
في عام 1857، قررت الجمعية الفلسفية في لندن أن القواميس الثلاثة للغة الإنجليزية في ذلك الوقت، كانت غير كافية على الإطلاق لتوضيح اللغة المتنوعة؛ لذلك قررت المجموعة الشروع في مهمة إنشاء قاموس شامل للغة الإنجليزية.
لم يدرك أعضاء الجمعية والمجتمع الثقافي آنذاك ما ستؤولُ إليه الأمور عندما أعلن عن المشروع. في الأصل، كان الأعضاء يأملون أن ينتهي قاموس أوكسفورد الإنجليزي في 10 سنوات بإجمالي 64000 صفحة. ومع هذا التقدير المتواضع، يتضح أنهم أخطأوا بعشرات السنوات، إذ زادوا على ذلك بحوالي 60 عاماً.
بعد اثني عشر عاماً على بدء المشروع، وقَّعت الجمعية صفقة مع مطبعة جامعة أكسفورد لتجنيد محرريها لتجميع كل كلمة ممكنة من اللغة الإنجليزية المستخدمة في أي سياق منذ عام 1150 ميلادياً.
وبحسب الموقع الرسمي لقاموس أوكسفور للغة الإنجليزية (OED)، استغرق الأمر ما يقرب من 70 عاماً كاملة حتى تم تجميع الطبعة الأولى من القاموس، وشهدت تلك السنوات لقاء رجلين كانا ظاهرياً متشابهين تماماً، لكنهما عاشا حياة مختلفة بشكل جذري. هذان الرجلان هما جيمس موراي والدكتور ويليام تشيستر مينور.
شخص لم يكن في الحسبان أبداً!
جيمس موراي كان أستاذاً ومعلماً لغوياً غير معروف، تولى منصب المحرر للقاموس، كانت مهمته الأولى هي الإعلان في جميع الصحف الرائدة عن أن المشروع كان يبحث عن "متطوعين" في العالم الناطق باللغة الإنجليزية لإرسال اقتباسات والمقترحات التي توضح كيف تغيرت معاني الكلمات بمرور الوقت.
كان هذا الطلب هو الذي جلب ويليام تشيستر مينور إلى المشهد، وفي سجلات التاريخ إلى يومنا هذا. كان ويليام تشيستر رجلاً أمريكياً قاتَل في الحرب الأهلية، وقد عمل جراحاً ضمن الطواقم الطبية في الجيش.
ولكن أثناء وجوده في الجيش، تم تكليفه بوشم علامة على وجه جندي أيرلندي في جيش الاتحاد بالحرف "D" مقابل "Deserter" والتي تعني الهارب من التجنيد.
وقد قال وينشستر لاحقاً إن الظروف القاسية المماثلة في الجيش والعنف الذي وقع في الحرب الأهلية لعبا دوراً في تطوير حالة من الخرف الشديد والبارانويا لديه.
بارانويا وجريمة قتل
بعد الحرب، هاجر تشيستر ماينور إلى لندن بحثاً عن مناخ أفضل للمساعدة في التعايش بسلام مع إصابته بالخرف والأعراض النفسية والعقلية نتيجة تجارب الحرب المؤلمة؛ لكن حادثة وقعت هناك ستحدد مصيره.
ففي واحدة من المناطق سيئة السمعة والمليئة بالجريمة في مدينة فيكتوريا كانت مكاناً يسمى Lambeth Marsh. هذا المكان كان يعج باللصوص والقوادين والبغايا.
عاش وينشستر في المنطقة وبات معروفاً بمزاجه المضطرب ومعاناته من جنون الارتياب الشديد، إلى أن أطلق النار على أحد المارة يدعى جورج ميريت، معتقداً أنه لص بينما في الواقع كان مجرد رجل من الطبقة العاملة من أحد مستودعات لندن.
تم القبض على ماينور وأرسل إلى برودمور، المصحة العقلية سيئة السمعة في مدينة كروثورن الإنجليزية. لكن راتبه من معاشه العسكري وحسن سلوكه جعلاه يتلقى معاملة أفضل، وغرفة خاصة، وسُمح له هناك بشراء الكتب.
التطوع في إعداد قاموس أوكسفورد
من خلال المراسلات مع بائعي الكتب، وجد تشيستر ماينور إعلان موراي عن التطوع لإعداد قاموس اللغة الإنجليزية، فبدأ بعد قراءته الواسعة في المصحة في إرسال اقتباسات وتعريفات لغوية إلى موراي أورد فيها المئات من الكلمات.
جمع ماينور من كل كتاب قرأه اقتباساً، ودونه على قصاصة من الورق لكي تصبح مرجعاً مُرتّباً بشكل أبجدي. كانت هذه المجهودات التوثيقية الصغيرة يرسلها ويليام تشيستر إلى جيمس موراي كل أسبوع، على مدى أكثر من 20 عاماً متواصلة، ما شكّلت عاموداً أساسياً في تأسيس قاموس أوكسفورد.
اللقاء المنتظر بالمساهم الأكبر في إعداد القاموس
عندما التقى موراي بتشيستر ماينور أخيراً عام 1891، في زنزانته بالمصحة النفسية، أدرك أنه بدون مساهمة الرجل المصاب بالخرف والمعزول في غرفة صغيرة، كان مكتب المفتش العام سيخسر أكثر من أربعة قرون من أصول الكلمات ضمن قائمته في إعداد القاموس.
العديد من الكلمات التي دونها ووثقها ماينور جاءت من اختياراته اللغوية للقراءة، وكتب كثيرة وغنية في اللغة الإنجليزية التي استغل فائض وقته في الاطلاع عليها وقراءتها لتعزيز قاموس أوكسفورد بما يجده فيها.
كما أعطته كتب الفلسفة السياسية وقراءته لأدب السفر الإنجليزي، أصولاً للكلمات المستخدمة بشكل متكرر في اللغة ولم يكن هناك علم عن أصولها ونشأتها.
رفض إطلاق سراحه رغم مساهماته اللغوية القيمة
على الرغم من حسن سلوكه، رفضت السلطات السماح لماينور بالخروج من المصحة النفسية.
ومع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته وبزوغ فجر القرن الجديد، أرسل جيمس موراي عشرات الرسائل إلى الحكومة؛ لكي تفرج عن شريكه العزيز في مشروعه المهم، كما قدم التماساً شخصياً إلى كبار ضباط القانون للسماح لماينور بالخروج من المصحة، بحجة أن هذه المؤسسة ليست مكاناً ملائماً لرجل مهم مثله وشريك له في إعداد قاموس أوكسفورد.
في أوائل القرن العشرين، تدهورت حالة مينور وبدأ يعاني من الرؤى الكابوسية والهلاوس الحادة.
قصة مؤثرة ألهمت صناع الأفلام
لم تنجح التماسات موراي إلا في العام 1910 عندما تمكن من إقناع وينستون تشرشل بالتدخل لإطلاق سراح صديقه العزيز الذي توطدت علاقته به من خلال اللغة الإنجليزية والشغف المشترك بينهما بحفظها للأجيال القادمة بعناية.
وأخيراً، توفي موراي في منزله عام 1922، لتبقى قصة أستاذ اللغة والمجنون إحدى أكثر المصادفات إثارة للاهتمام في التاريخ الإنجليزي.
في 2019، عُرضت قصة هذين الرجلين على الشاشات، في فيلم بعنوان "البروفيسور والمجنون" أو The Professor and the Madman، من بطولة ميل جيبسون وشون بن. بعدما تم اقتباسه من الكتاب الأكثر مبيعاً لعام 1998 بعنوان The Surgeon of Crowthorne، بقلم الصحفي سيمون وينشستر.