من عمق صحراء الجزائر جاءت امرأة هاربة من منطقة تافيلالت المغربية،هربت الملكة تينهينان بعدما أرغمها والدها على الزواج من أحد أمراء إفريقيا، في ذلك الوقت لم يكن أحد يدرك أن تلك الفتاة قد تصبح ذات شأن عظيم يذكرها التاريخ إلى يومنا الحالي.
حيث ستحكم بعد هروبها بسنوات مملكةً مترامية الأطراف تبدأ من صحراء ليبيا وصولاً إلى تشاد من جهة، ومن الجزائر شمالاً إلى مالي جنوباً، ومن النيجر إلى موريتانيا، حيث تعد المساحة التي حكمتها ثلث القارة الإفريقية.
الملكة ناصبة الخيام
عُرفت الملكة تينهينان عند العديد من المؤرخين بلقب "أم الطوارق"، وهو الشعب الأمازيغي الذي يستوطن الصحراء الكبرى في إفريقيا، حسب الموقع المغاربي "أصوات". تينهينان تعني "ناصبة الخيام" بلغة الطوارق القديمة، حسب سكان المنطقة الحاليين.
بدأت قصتها بعدما تعرضت إلى مضايقات من عائلتها الحاكمة لمنطقة تافيلالت بالمغرب، حيث أجبرت على الزواج لتقرر بعدها الهروب رفقة حاشيتها نحو الصحراء.
حسب الروائي المتخصص في البحث حول تاريخ الشخصيات الأمازيغية "كفاح جرار"، كان الأمازيغ يسمون أولادهم ببعض الصفات، حيث اشتهرت تينهينان بهذا الاسم بسبب أنها كانت بارعة في نصب الخيام.
بعد هربها ظلت تينهينان وخادمتها المقربة "تاكامات" ومن معهما من الخدم يسيرون في الصحراء لعدة أيام وليالٍ حتى أوشك أن ينفد منهم الزاد والماء، ما كاد يتسبب في هلاكهم.
لتفطن خادمتها إلى أسراب نمل تحمل فوق ظهورها حبات شعير، وعندما أخبرت سيدتها عرفت تينهينان أنها على مقربة من الماء، فسلكت الطريق القادم منه النمل، وحين وصولهم لمنطقة ستعرف فيما بعد باسم "الأهقار" أو "الهقار" والتي توجد حالياً في صحراء الجزائر، وجدوا قرية بالقرب من بركة ماء أطلقوا عليها اسم "ترقة"، ومنها جاء اسم "التوارق"، لتصبح فيما بعد الطوارق.
عُرفت تينهينان بالحكمة وسداد الرأي، ما أهلها إلى أن تسيّر علاقاتها مع المحيط الجديد الذي انتقلت إليه، وأصبحت تعلم المقيمين في "الأهقار" أساليب تخزين الطعام والاستعداد الدائم لمواجهة العدو.
فحسب ما ذكره الكاتب المغربي "عبد الله هسوف" في كتابه "الأمازيغ قصة شعب" عن سبب تسميتها بالملكة هو أن القصص والآثار أثبتت أنها كانت تدافع عن أرضها وشعبها ضد الغزاة من قبائل النيجر وموريتانيا الحالية والتشاد، فاشتهرت بالحكمة والدهاء، ما دفع سكان المنطقة لتنصيبها ملكة عليهم.
شعب ينتسب للأم بدلاً من الأب
غلبت الملكة الجديدة للطوارق العديد من القبائل التي كانت طامعة في مملكتها، فطوعتهم جميعاً، ما جعل رجال مملكتها يطيعون أوامرها ويثقون في قراراتها.
تزوجت تينهينان فيما بعد، لكن لم يذكر التاريخ اسم زوجها الذي أنجبت منه أولاداً وبنات كان أشهرهم "أهقار" الذي سمي على اسمه جبل "الهقار" الواقع في منطقة تمنراست بالجزائر.
ويفيد المؤرخ الجزائري "محند أرزقي فراد" في حوار له على التلفزيون الجزائري أن تينهينان كانت قائدة مملكة مترامية الأطراف، ولذلك انتسب الطوارق إليها جميعاً، بمعنى أن مجتمعها كان "أماسياً"، حيث يأخذ الرجال والنساء نَسَبهم من الأم وليس من الأب، لذلك تعتبرها الدراسات التاريخية أماً للطوارق.
وبحسب روايات تناقلتها الأجيال أباً عن جد يذكر أن تينهينان حكمت هذه الأراضي خلال القرن الخامس الميلادي، وعليها يستند الطوارق في تنظيمهم الاجتماعي، الذي يستمد السلطة حتى الآن من حكمة المرأة.
وحسب الروايات نفسها فقد برعت الملكة الأمازيغية في التجارة؛ حيث أقامت علاقاتها مع قبائل جنوب الصحراء، ما ضمن لها ولمملكتها الحياة، حيث كانت تستورد أنواعاً من المواد الأساسية التي كان يصعب عليها تأمينها في الصحراء.
ابن خلدون ووصف الملكة تينهينان
تركت تينهينان خصوصية واضحة في مجتمع الطوارق، وهذا ما يؤكده المؤرخ الشهير، ابن خلدون، حين يتحدث عن الطوارق ويصفهم بأنهم "أبناء تيسكي"، ويعني أبناء المرأة العرجاء، وهذا يتطابق مع ما توصلت إليه أبحاث الحفريات المكتشفة، والتي أكّدت بدورها أن تينهينان كانت عرجاء.
تضيف بعض المصادر أن الملكة أصيبت في إحدى المعارك بجرح في رجلها، ما جعلها تعرج في مشيتها، ثم تحوّل هذا الجرح إلى "غرغرينا"، وتسبب هذا الداء في وفاتها.
لم يُكتشف موقع دفن الملكة تينهينان إلا في سنة 1925، من طرف بعثة فرنسية أمريكية مشتركة في "أباليسا" بمنطقة الهقار جنوب الجزائر، حيث وجد قبر فوقه 9 طبقات مختلفة من الحجارة، ومن تحته هيكل عظمي لامرأة بيدها اليمنى 7 أساور من فضة، وباليد الأخرى 7 أساور من ذهب، ليثبت فيما بعد أنه يعود للملكة تينهينان.
يرقد الهيكل العظمي لتينهينان، منذ أكثر من نصف قرن على اكتشافه بداخل صندوق زجاجي، وتظهر محاطة بحليها الذهبية والفضية ولباسها الجلدي في متحف الباردو بالجزائر العاصمة، بعد نقلها من ضريح "أباليسا" بالهقار، بعد الاستقلال الجزائري.