قصة أدولف تولكاتشيف بدأت فر فترة هامة من تاريخ العالم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أصبح العالم كله على يقين من أن هناك صراعاً محتملاً قادماً بين حليفين سابقين، واللذين تحولا بالفعل إلى قطبين يتصارعان على الهيمنة العالمية، وبعد أقل من 5 سنوات بدأ العالم يستشعر برودة صراع الهيمنة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، الصراع الذي تحول إلى حرب باردة كانت أرض معركتها هي العالم بأكمله، ونشطت الأبحاث العلمية، وتطور سلاح الجواسيس، بدلاً من الجنود والطائرات والمدافع.
وكانت الفترة من الخمسينيات إلى الثمانينيات من القرن العشرين، واحدة من أبرز فترات نشاط التجسس، ربما بمعدلات أعلى من أنشطة التجسس أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت المعارك ضارية بين أجهزة المخابرات السوفييتية ومثيلتها الأمريكية، ومن بين هذه المعارك كانت واحدة من أكثر العمليات التي يتفاخر بها الأمريكيون، وهي عملية جاسوس المليار دولار، أو كما كان يُعرف باسمه الحقيقي: "أدولف تولكاتشيف".
كيف بدأ أدولف تولكاتشيف في نشاطه
بحسب كتاب "جاسوس المليار دولار" Billion dollar spy للكاتب الأمريكي ديفيد إي. هوفمان، والذي سرد أحداث العملية بأكملها في كتابه، البالغ عدد صفحاته 945 صفحة، والذي اعتمد على وثائق الملف الأصلي للعملية، التي أُفرج عنها رسمياً في 2014؛ لم تسعَ المخابرات الأمريكية خلف تجنيد "أدولف تولكاتشيف"، بل كانت المبادرة منه شخصياً.
كان أدولف جورجيفيتش تولكاتشيف مهندس إلكترونيات يعمل في مجال تطوير الأفيونكس والرادارات التابع لسلاح الجو السوفييتي، وفي عام 1977، حاول "تولكاتشيف" أكثر من مرة التواصل مع ضباط جهاز الـ"سي آي إيه"، والذين عملوا بشكل غير رسمي في السفارة الأمريكية في موسكو، والتي كانت بالطبع تحت مراقبة مجهرية من قبل رجال الاستخبارات السوفييتية؛ ولكن الأمريكيين تجاهلوا طلبات تولكاتشيف أكثر من مرة، إذ كان من البديهي أن الأمر مشكوك فيه، وأنه ربما يكون تولكاتشيف جاسوساً سوفييتياً يحاول جهاز "كي جي بي" السوفييتي دسّه للإيقاع برجال "سي آي إيه".
ولكن في مارس/آذار من عام 1978 اقترب آدولف من سيارة أحد الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في السفارة الأمريكية وألقى بها رسالة تحتوي على معلومات تفصيلية عن شخصه ومكان عمله وبيته ورقم هاتفه وماذا يعمل وأيضاً معلومات تقنية أولية عن التصاميم العسكرية السوفييتية التي يعمل عليها.
وهنا تبخرت أغلب شكوك رجال المخابرات الأمريكية حول تولكاتشيف، وقررت أن تتواصل معه بحذر، وتحاول معرفة ما الذي يمكن أن يقدمه.
ماذا قدَّم أدولف تولكاتشيف للأمريكيين؟
بعد عدة أيام استطاع رجال الـ"سي آي إيه" ترتيب لقاء مع تولكاتشيف بعد أن تأكدوا تماماً من أن لا أحد يتبعه، أو يراقبه من رجال المخابرات السوفييتية، وفي أول تعاون بين الأمريكيين وتولكاتشيف طلب منهم مبلغاً من المال، مقابل أن يزودهم بمعلومات دقيقة حول نظام الرادار والملاحة الإلكتروني السري الذي يطوره هو شخصياً لصالح سلاح الطيران السوفييتي، وعرف باسم Avionics.
وبعدما أرسلت المخابرات الأمريكية المعلومات الأولية إلى المؤسسة العسكرية الأمريكية البنتاغون، جاء ردها بأن المعلومات التي أرسلها "أدولف تولكاتشيف" مهمة للغاية، وأن أي معلومات سيقدمها في الأغلب ستكون بالأهمية نفسها، إن لم تكن أهم.
بعدها استمر التعاون بين الأمريكيين وتولكاتشيف، هذا التعاون الذي غيَّر مسار التخطيط العسكري الأمريكي بالكامل، وجعل – بحسب وصف الكتاب الذي نُشرت فيه العملية – أسرار سلاح الجو السوفييتي وتحركاته مكشوفة كصفحة كتاب أمام الأمريكيين، فقد استطاع أدولف تقديم معلومات موثقة ودقيقة تصل إلى 250 وثيقة مهمة عن كل من: سلسلة صواريخ جو- جو السوفييتية من طراز "آر"مثل : R R-27 وR-33 وR-60، كما قدم معلومات عن الرادارات المستخدمة في طائرات الميغ من طرازات: 21 و23 و29 وطائرات السوخوي 27، والتي كانت آنذاك أحد أكبر مشاريع الطيران الحربي في الاتحاد السوفييتي، كما أتاح كذلك معلومات مهمة عن رادارات الدفاع الجوي السوفييتي، وأهم ما قدمه هو معلومات عن رادار الـ PESA الخاص بطائرات الميغ 31 والذي كان أول رادار PESA رقمي محمول جواً في العالم، وكان يتفوق على الرادارات الميكانيكية التقليدية.
بفضل أدولف استطاع سلاح الجو الأمريكي السيطرة على أغلب الصراعات الإقليمية التي تنتهج التسليح السوفييتي مثل دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية وكوريا الشمالية، والمعارك الجوية التي خاضوها أثناء قصف ليبيا في الثمانينيات واستطاعوا التشويش على الطائرات الليبية، وكذلك الدفاع الجوي الليبي، كما وفر تولكاتشيف معلومات دقيقة جعلت طائرات سلاح الجو السوفييتي مكشوفة تماماً أمام الجيش الأمريكي، وساعد بمعلوماته المهندسين الأمريكيين على تطوير وسائل الإعاقة والتشويش المناسبة.
ولاحقاً اعترف جهاز "سي آي إيه" بأن أدولف تولكاتشيف وفّر على أمريكا قرابة ملياري دولار، كانت ستُصرف على أبحاث تطوير سلاح الجو الأمريكي، ليصبح قادراً على التصدي للقفزة التي حققها السوفييت في مجال الطيران آنذاك، وبحسب كتاب جاسوس "المليار دولار"، لا تزال بعض المعلومات التي قدمها أدولف تولكاتشيف سريّة حتى وقت الكشف عن العملية عام 2014.
سقوط أدولف تولكاتشيف جاسوس المليار دولار
بحسب وثائق العملية الواردة في الكتاب، أن تولكاتشيف كان محمّلاً برغبة قوية بالانتقام لعائلة زوجته من العذاب الذي ذاقته، حيث أُعدمت أمها وأُرسل والدها إلى معسكرات التعذيب التي أعدها الرئيس السوفييتي جوزيف ستالين قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، والتي أقامها لمعاقبة معارضيه. وقال الكتاب عن تولكاتشيف إنه كان معارضاً للفكر الشيوعي بشدة، وأراد أن ينتقم من الدولة السوفييتية بكشف أسراره العسكرية للولايات المتحدة، ولم يكن هدفه الأول هو المال.
لكن، وبعد التعاون الكبير بين أدولف تولكاتشيف والأمريكيين وفي 13 يونيو/حزيران 1985 أثناء محاولة أحد عملاء المخابرات الأمريكية لقاء أدولف في موسكو تم اعتقال الاثنين معاً بواسطة القوات الخاصة التابعة للمخابرات السوفييتية وعُرفت باسم مجموعة "ألفا"، وكان عميل المخابرات الأمريكية يحمل حقيبة تحوي وثائق سرية وكاميرات تصوير وأجهزة تنصت، ولكن أدت الجهود الأمريكية الدبلوماسية لإطلاق سراحه، وفشلت في التفاوض حول أدولف تولكاتشيف، وبعد محاكمة استمرت حوالي 10 أشهر، أُعدم أدولف تولكاتشيف بتهمة الخيانة عام 1986، بعدما تسبب في أحد أكبر تسريبات سلاح الطيران السوفييتي.