ليست حياة "فيتو جينوفيز" فقط، بل إن حياة عصابات المافيا وأساليب حياتهم وارتباطهم بالجريمة كانت ولا تزال أحد أهم العناصر المثيرة للجدل والاهتمام حول العالم، ربما ليس السبب الأساسي هو أن البعض يرون الجريمة أمراً مقبولاً، ولكن الهياكل الإدارية والمنافسات والوسائل المبتكرة في الأذى تشكل عنصراً "درامياً" كبيراً، يجد البعض فيه الكثير من التشويق، وببساطة يمكننا إلقاء نظرة على أعلى الأفلام تقييماً في تاريخ السينما الأمريكية؛ سنجد الفيلم الأسطوري "الأب الروحي" الذي تناول سيرة زعيم المافيا الأسطوري، فيتو كورليوني، يأتي في المركز الثاني لأفضل 250 فيلماً حتى اليوم.
قد تختلف حياة صاحب هذه القصة عن شخصية "كورليوني" الخيالية، ولكنها تحتوى على تفاصيل قد تضع "فيتو جينوفيز" على رأس أكثر زعماء المافيا خطورة وقوة في تاريخ أمريكا، فمن مدينة نابولي الإيطالية إلى زعامة المافيا؛ هذه قصة المجرم العتيد.
فيتو جينوفيز.. البداية والخطوات الأولى
وُلد فيتو جينوفيز في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1897 في مقاطعة توفينو في نابولي بإيطاليا، ونشأ برفقة أسرته المكونة من الأب والأم وثلاثة صبية وفتاة صغيرة. ولكن قرر والده، فرانسيس فيليس جينوفيز، ووالدته، نونزياتا ألوتو، الهجرة إلى أمريكا عندما كان فيتو يبلغ من العمر 15 عاماً فقط.
وبالفعل وصلت الأسرة إلى مدينة نيويورك عام 1913، وبالطبع توجهوا للإقامة في الحيٍّ الإيطالي بمدينة نيويورك، ومع ضعف اهتمام الأبوين به وإجادته للقراءة، أمضى جينوفيز أيام مراهقته في السرقات الصغيرة، بعد أن تعرف على جماعات الصبية العاطلين في الحي، ثم ترقى بعد ذلك إلى أولى درجات عالم الجريمة: تحصيل الديون للعصابات. وأُلقِيَ القبض على فيتو جينوفيز لأول مرة حينما كان في الـ19 من عمره، وقضى سنة واحدة في السجن لحيازته سلاحاً نارياً.
Embed from Getty Imagesبعدها التقى جينوفيز بتشارلز "لاكي" لوتشيانو -أحد أبرز الأسماء في عالم المافيا الإيطالية في أمريكا- في الحي، وسرعان ما أعجب لوتشيانو بقدراته، وأصبح ذراعه الأيمن، ومع صعود قوة عصابات المافيا الوليدة في أمريكا في العشرينيات، تحول جينوفيز سريعاً إلى رجل العصابات والقاتل الأكثر موثوقية بين الأسماء إيطالية الأصل. واكتسب جينوفيز سمعةً رنانة في عالم الجريمة، وارتقى في المراتب بين أفراد العصابات، خاصة مع اكتساب لوتشيانو مزيداً من القوة.
بينما كانت مسيرته المهنية في المافيا قد بدأت بالفعل، أُدخِلَ فيتو جينوفيز رسمياً في الجريمة المنظمة خلال حقبة حظر الكحوليات الشهيرة في أمريكا في العشرينيات. وسرعان ما انتقل للعمل لحساب اسم أكبر في عالم المافيا آنذاك: جوزيبي "جو ذا بوس" ماسيريا، فأصبح هو ولوتشيانو من كبار مساعديه.
الترقي والصراع مع ماسيريا
في عام 1930 قرر فيتو جينوفيز بدء عمليات تهريب خاصة به مع رجل عصابات شهير آخر هو "فرانك كوستيلو"، وكانت الشرطة آنذاك قد بدأت في تتبع أنشطة المافيا، وجاء اسم جينوفيز في تحقيقات في قضية تهريب وتزوير أموال، وبالفعل وُجِّهَت إلى جينوفيز تهمة التزوير، حيث عثرت الشرطة على مليون دولار من النقود المزيفة في مستودعاته في بروكلين. ولكن نفوذ ماسيريا أخرجه من القضية بكل سهولة.
Embed from Getty Imagesوفي مقابل هذا رد جينوفيز الجميل لـ"ماسيريا" بأن خلّصه من منافسه الأول في نيويورك "تومي رينا" في 26 فبراير/شباط 1930 عندما أطلق عليه النار أثناء خروجه من إحدى البنايات، وهو ما جعل "ماسيريا" مسيطراً على عصابة "تومي رينا" بالكامل، ولكن لم تلبث الأمور أن تهدأ حتى أشعل ماسيريا واحدة من أكبر حروب العصابات في تاريخ أمريكا: حرب "كاستيلاماري" التي استمرت 14 شهراً.
جينوفيز: الحرب والخيانة والمنافسة
سميت هذه الحرب على اسم "كاستيلاماري ديل جولفو" مسقط رأس سالفاتوري مارانزانو، أكبر زعماء المافيا في كل الولايات المتحدة آنذاك، شهدت حرب كاستيلاماري مواجهاته مع "جو ماسيريا" من أجل النفوذ والسيطرة. وعلى كل مصادر الدخل للعصابات، بما فيها المقامرة والتهريب والاتجار بالمخدرات والدعارة، ولم تتوقف إراقة الدماء التي لا هوادة فيها حتى 15 أبريل/نيسان 1931.
كانت الحرب معركة بين الأساليب التقليدية للعصابات منذ فترة طويلة، ووجهات النظر غير المحظورة للوافدين الجدد. لذلك شعر لاكي لوتشيانو وفيتو جينوفيز بقليل من الولاء لزعيمهم ماسيريا المسن، وقتلوه في مطعم نوفا تامارو في كوني آيلاند بولاية نيويورك عندما قبلوا عرض منافسه مارانزانو بقتل رئيسهم مقابل السيطرة على كل أملاكه ونفوذه.
وبعد ذلك لم يتمم مارانزانو اتفاقه مع "فيتو" وصديقه "لوتشيانو" بعد أن قُتل زعيمهم، وحاول أن يستدرجهم للخلاص منهم؟، ولكن فيتو ولوتشيانو كانا أكثر حيطة من أن يُقتلوا بهذه السهولة، وانتهى الأمر بـ"مارانزانو" قتيلاً، وبذلك انتقلت السيطرة في نيويورك بالكامل إلى لوتشيانو ومعاونه فيتو جينوفيز.
في سيطرته على جميع الجرائم المنظمة في نيويورك، ابتكر لوتشيانو هيئة حاكمة تعرف باسم اللجنة – وأنشأ العائلات الخمس للمافيا الأمريكية، مع عائلته لوتشيانو التي صارت الأكبر فيهم. وباعتباره رئيساً جديداً للاكي لوتشيانو، كان فيتو جينوفيز لا يمكن المساس به لدرجة أنه قتل رجلاً يُدعى غيرارد فيرنوتيكو لمجرد أنه أراد الزواج من زوجته.
كيف أدى طموح جينوفيز إلى إسقاط المافيا
كانت فترة فيتو جينوفيز كرئيس لعائلة لوتشيانو الإجرامية قصيرة، ولكن لتعقيدات قانونية فر إلى إيطاليا في عام 1937، وعين فرانك كوستيلو رئيساً بالنيابة عنه، وبالعودة إلى إيطاليا في الأربعينيات، اختلط جينوفيز مع رجال الدولة والأثرياء المحليين، وحتى بعض المصادر أشارت إلى أنه كوّن صداقة مع "الدوتشي" أو بينيتو موسوليني، زعيم الفاشية الإيطالي أثناء الحرب العالمية الثانية في عام 1943، كما نسب إلى جينوفيز أيضاً أمره بقتل الصحفي كارلو تريسكا بسبب تغطيته المناهضة لموسوليني.
وعلى الجانب الآخر، في نيويورك دخل معسكر الجبهة المضادة لموسوليني، كان جينوفيز يساعد جهود الحلفاء -وعلى رأسها تموين الجيش الأمريكي- الحربية عندما غزوا إيطاليا، ولكن بعد تحقيقات داخلية ألقت الشرطة العسكرية الأمريكية القبض عليه أيضاً لتأسيسه عمليات السوق السوداء التي سلبت موارد الجيش عام 1944.
Embed from Getty Imagesأنكر جينوفيز كل التهم واستطاع التخلص من الشهود، وعاد آنذاك إلى نيويورك، غير أن شركائه السابقين كانوا مترددين في التخلي عن مناصبهم، ومن ثم نشب صراع آخر بطيء بينهم، وفي عام 1957، فشل في قتل فرانك كوستيلو، الذي حاول التمرد على جينوفيز، ولكن انتهى الأمر بانتصار فيتو جينوفيز.
بصفته قائداً جديداً للعصابة، أعاد تسميتها إلى عائلة جينوفيز. بعد ذلك، عقد فيتو جينوفيز مؤتمراً في 14 نوفمبر/تشرين الثاني في نيويورك، والذي أصبح يُعرف فيما بعد باسم اجتماع أبالاتشين. بعد أن هجمت الشرطة على رجال العصابات من جميع أنحاء البلاد، أُلقِيَ القبض على بعضهم، ونجح البعض الآخر في الفرار، ولم يُلقَ القبض على جينوفيز لمجرد ادعائه أنه كان هناك لحضور حفل شواء. ولكنه لاحقاً سقط في قبضة الشرطة، وأدين بتهمة التآمر لخرق قوانين المخدرات الفيدرالية في 17 أبريل/نيسان 1959 ،
في النهاية، واصل فيتو جينوفيز إدارة أعماله من وراء القضبان. من الأمر بقتل رجال العصابات المتنافسين إلى أولئك الذين اعتبرهم مخبرين، ظل جينوفيز مسؤولاً عن كل ذلك حتى وفاته بنوبة قلبية في 14 فبراير/شباط 1969، بينما كان مسجوناً في المركز الطبي الأمريكي للسجون الفيدرالية في ولاية ميسوري.