"ادعي لي بالرحمة يا أمي، ولا تقولي إني فعلت شيئاً حراماً، دار الإفتاء نفسها قالت إن الانتحار ليس حراماً"، كانت تلك الكلمات الأخيرة لإحدى الفتيات المراهقات التي أقدمت على الانتحار في مصر في الآونة الأخيرة.
كان الملاحظ هو استخدام الفتاة لفتوى سابقة صادرة عن دار الإفتاء المصرية تقول إن المنتحر ليس بكافر كفر الملة، وأنه ارتكب كبيرة من الكبائر وترجى له الرحمة.
مثل هذه الحوادث تعيد إلى الواجهة ما تشهده عدد من الدول العربية والإسلامية منذ سنوات فيما يمكن أن يطلق عليه فوضى الفتاوى الغريبة، سواء في المضمون أو التوقيت، والتي تصل في بعض الأحيان لما يوصف بـ"الشذوذ الفكري"، الذي يصعب أن يتقبله عقل.
المشكلة تظهر عندما تسبب بعض هذه الفتاوى تأثيراً سلبياً على المجتمعات، حين يبدأ البعض في تطبيقها. نذكر في هذا التقرير بعضاً من تلك الفتاوى التي انتشرت في السنوات الأخيرة من عدة دول، وما كان لها من تأثير سلبي على المجتمعات.
فتوى الانتحار
في وقت تشهد فيه مصر تصاعداً في وتيرة حالات الانتحار، عاد النقاش حول تلك الفتوى التي أصدرتها دار الإفتاء المصرية عام 2019، والتي أشارت فيها إلى عدم خروج المنتحر من الملة وأنه ليس بكافر كلياً.
توقيت هذه الفتوى لم يكن يتناسب مع حالة التدهور الاقتصادي التي يشهدها المجتمع المصري، والتي تسببت في لجوء البعض بالفعل إلى الانتحار للتخلص من ضغوطات الحياة والأزمة الاقتصادية وعدم القدرة على توفير الطعام.
وكانت دار الإفتاء ذكرت في فتواها أن الانتحار إخلال بمبدأ الشريعة الإسلامية بحفظ الكليات الخمس وهي الدين، النفس، العقل، النسب والمال، وهذه كليات متفق عليها بين الأديان السماوية وأصحاب العقول، لكن المنتحر ليس بكافر كفر الملة، أي أنه ليس خارجاً من ملة الإسلام، بل هو كفر أصغر، وهو كفر النعمة، وأن المنتحر ارتكب كبيرة من الكبائر التي يقابلها عقاب عظيم وممتد، وإن مات الشخص على ملة الإسلام فهو من أصحاب الكبائر وله وعيد وترجى له الرحمة، وهو داخل في دائرة الإرادة الإلهية فإن يشأ يعذبه أو يرحمه.
محمد سليم، استشاري في الطب النفسي، علق لـ"عربي بوست" على نتائج تلك الفتوى على المصريين، بالقول إن هناك تأثيراً واضحاً لهذه الفتوى على فئات الشباب، الذين يعتبرون- وفقاً لكل البيانات المتخصصة الصادرة من جهات دولية أو مصرية- الأكثر إقداماً وميلاً للانتحار، بسبب ما يعانونه من اضطرابات تعرف باسم "تدهور سن المراهقة"، والتي قد تدفع بعضهم إلى محاولة الانتحار.
وأضاف الاستشاري أن ما حدث بعد ظهور فتوى دار الإفتاء التي لم تحلل الانتحار كما هو واضح من صياغتها، لكنها فقط قالت إن المنتحر ليس كافراً وتجوز الصلاة عليه، هو أن الكثير من المراهقين وجدوا في الفتوى ما يريح قلوبهم نحو القرار الذي اتخذوه بالانتحار.
ورغم غياب إحصاءات رسمية عن عدد المنتحرين في مصر في الأعوام التالية على صدور الفتوى، بسبب ما ذكرته تقارير صحفية عن أن أهالي المنتحرين يسجلون وفاة أبنائهم كوفاة طبيعية خوفاً من العار المجتمعي، فإن هناك تقارير منسوبة للبنك الدولي تفيد بارتفاع حالات الانتحار في مصر إلى نحو 4000 حالة عام 2019، ومثلها في العامين التاليين 2020 و2021، وهي معدلات ينفيها مجلس الوزراء المصري ويصفها بالمبالغة.
استغلال فتوى المنتحر
في المقابل، هناك حالات موثقة توضح مدى تأثر المراهقين بفتوى دار الإفتاء المصرية، ومنها حالة عايشتها السيدة المصرية شاهندة، التي قالت لـ "عربي بوست" إنها استيقظت صباح أحد الأيام على صراخ وعويل في البناية التي تقطنها، فما كان منها سوى الإسراع بالخروج للاطمئنان على نجلها المراهق الذي اعتاد أن يواجه حوادث غريبة في مصعد البناية.
لكن بعد وصولها إلى الممر الرابط بين شقق البناية سمعت بعض الجارات يتحدثن عن إلقاء فتاة مراهقة كانت تستعد لأداء امتحانات الثانوية العامة بنفسها من شرفة منزلها في الدور الخامس، لتقع جثة هامدة فوق سقف الجراج الخاص بالبناية.
المثير هو ما علمته شاهندة لاحقاً حين ذهبت لدعم جارتها والدة الفتاة المنتحرة، حيث كانت تردد وهي في حالة صدمة أن ابنتها لم تتحمل ضغوط الثانوية العامة وقررت إنهاء حياتها، وتركت لها ورقة تقول فيها "ادعي لي بالرحمة يا أمي، ولا تقولي إني فعلت شيئاً حراماً، دار الإفتاء نفسها قالت إن الانتحار ليس حراماً إذا كان الإنسان يائساً من حياته وغير قادر أن يتعامل مع الضغوط".
فتوى منع النساء من مشاهدة مباريات الكرة
انتشرت في العديد من المجتمعات الإسلامية فتاوى متعددة تحرم مشاهدة النساء لمباريات الكرة الرجالية، سواء كان ذلك عبر الذهاب إلى الملاعب أو حتى متابعة المباريات من خلال شاشات التلفزيون، بدعوى أن هذا الأمر يتيح للنساء النظر إلى أجسام الرجال المكشوفة.
قال إمام أحد المساجد بالسعودية إن رؤية المرأة للرجل الأجنبي حرام من الأصل، فكيف إذا رأت عضلاته. كما أفتى عطار قاسمي، المفتي في أحد أكبر المراكز الدينية، في بلدة ديوبند بولاية أوتار براديش، الواقعة شمالي الهند، بتحريم مشاهدة مباريات كرة القدم للمرأة المسلمة حتى على شاشات التلفاز.
وانتقد الرجال الذين يسمحون لزوجاتهم بمشاهدة مباريات كرة القدم، متسائلاً ماذا ستجني النساء وهن يشاهدن سيقان الرجال؟ وهو الأمر الذي سيهتممن به فقط وليس متابعة المباراة، على حد قوله.
هذه الفتاوى أخذت طريقها للتطبيق في بعض الدول، فإذا كانت السعودية قد سمحت للنساء بدخول الملاعب، بداية من شهر يناير/كانون الثاني عام 2018، ضمن خطوات الانفتاح التي أرساها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فإن هناك دولاً لا تزال متشددة في هذا الأمر، مثل إيران التي تمنع النساء من دخول الملاعب منذ قيام الثورة الإسلامية قبل 43 عاماً.
وقد تسبب المنع الممنهج للنساء من المشاركة في التشجيع الكروي، في دفع الكثير من الإيرانيات المغرمات باللعبة للتحايل على الأمر بالتنكر في زي رجالي، كما قالت مريم شجاعي، وهي ناشطة إيرانية مقيمة في كندا لصحيفة الغارديان البريطانية.
ويواجه المنتخب الإيراني بسبب تلك الفتوى ضغوطات من أجل استبعاده من المشاركة في نهائيات كأس العالم المقبلة "قطر 2022″، التي تأهل لها بجدارة عن قارة آسيا، بعدما تلقى الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" مطالبات من شخصيات عدة، بينهم فرح ديبا، أرملة شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي، بإقصاء المنتخب الإيراني من المشاركة في المونديال، بعدما منعت الشرطة الإيرانية النساء من دخول ملعب كرة قدم في مدينة مشهد، لحضور مباراة ضمن التصفيات الآسيوية المؤهلة لكأس العالم، يوم 29 مارس/آذار 2022، بين إيران ولبنان.
وذكرت تقارير أن الشرطة منعت مئات المشجعات اللواتي كنّ يحملن تذاكر من الولوج إلى الملعب، كما قامت بضرب النسوة خارج الملعب بالعصي، وأطلقت عبوات الغاز المسيل للدموع.
فتوى تجيز للرجل ترك زوجته تُغتصب حفاظاً على حياته
الشيخ ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية في مصر، له بعض الفتاوى التي توصف بالشاذة. لكن أخطر فتاواه كانت تلك التي أطلقها عام 2014، وتسببت في جدل عنيف داخل المجتمع الديني والمدني على حد سواء.
فقد ذكر برهامي في فتواه أن الرجل الذي تتعرض زوجته للاغتصاب من أجانب إذا كانت لديه إمكانية للدفاع عنها يلزمه بلا شك الدفاع عنها، وأما إذا كان متيقناً أنه سيُقتل وهي تُغتصب فهو لا يأثم إن تركها لأنه سيُقتل. ولم يكتفِ بذلك، وإنما قال إن على المرأة (وليس زوجها) أن تدافع عن نفسها.
واستشهد برهامي على صحة فتواه بقصة سيدنا إبراهيم لما جاء إلى مصر، وطلب الجبار امرأته سارة، فقال إنها أختي، ويقصد أنها أخته في الإسلام، حتى لا يُقتل وتُؤخذ، ووقف يصلي ويدعو الله أن ينجيها وقد نجاها الله، لكن القصة لا تقول كما نعلم إن الجبار اغتصب السيدة سارة أو حاول اغتصابها، وبالتالي لا يوجد وجه للشَّبه بين القصة وفتوى برهامي، حسب رد بعض رجال الدين في مصر عليها.
لم تجد تلك الفتوى آذاناً مصغية في المجتمع، بسبب الهجوم العنيف عليها من العديد من الشيوخ، منهم الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، الذي عقَّب على الفتوى ساخراً بأنها تجعل الناس أشبه بالقوادين الذين تموت نخوتهم، ويتركون نساءهم للذئاب البشرية.
كما وجدت الفتوى معارضةً قويةً في الشارع المصري، حيث اعتبرها الكثير من الرجال والشباب تقليلاً من رجولتهم ونخوتهم.
ولا توجد إحصاءات رسمية في مصر عن معدلات حوادث الاغتصاب قبل وبعد تلك الفتوى، لكن ما اطلع عليه "عربي بوست" يذكر أن المغتصبين لم يستسيغوا فيما يبدو فتوى برهامي، أو أن الأزواج أصبحوا أكثر حمية في الحفاظ على زوجاتهم، ما دفع المغتصبين لتحويل نشاطهم إلى الأطفال، حيث ذكر تقرير صادر عام 2018 أن هناك أكثر من 200 طفل تعرضوا للاغتصاب في السنوات الثلاث التالية لصدور الفتوى.
فتوى منع المرأة من قيادة السيارة
طوال أكثر من ثلاثة عقود كانت النساء في السعودية ممنوعات من قيادة السيارات، نتيجة لفتوى أطلقها عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان، بتحريم ركوب المرأة للسيارة لما فيه من مفاسد.
وعلّل فوزان فتواه بقوله "معلوم أن قيادة المرأة للسيارة تؤدي إلى مفاسد لا تخفى على الداعين إليها، منها الخلوة المحرمة بالمرأة، ومنها السفور، ومنها الاختلاط بالرجال بدون حذر، ومنها ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور، والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت، والحجاب، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع، فالشرع المطهر منع جميع الأسباب المؤدية إلى الرذيلة، بما في ذلك رمي المحصنات الغافلات بالفاحشة، وجعل عقوبته من أشد العقوبات صيانةً للمجتمع من نشر أسباب الرذيلة، على حد قوله.
لكن لم تجد الفتوى الغريبة غضاضة في استئجار سائق أجنبي لقيادة السيارة وتوصيل النساء ليلاً ونهاراً، رغم ما في ذلك من خلوة كما يرى بعض العلماء.
لكن باتت تلك الفتوى من الماضي، بعد أن أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً بمنح النساء حق القيادة، وشمل القرار توجيه إدارة المرور بالبدء في إصدار رخص القيادة للنساء، في 24 يونيو/حزيران من عام 2018، تكليلاً لجهود الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في تحديث المجتمع السعودي وانفتاحه على العالم.
الطريف أن إحصائية صادرة عن وزارة العدل السعودية عام 2019، بعد عام واحد من السماح للنساء بقيادة السيارات، كشفت أن فتوى منعهن لم تكن بعيدة النظر.
إذ كشفت الإحصائية عن أن 20% فقط من حوادث المرور في المملكة كانت تخص النساء، مبينة في الوقت ذاته أن النساء هن الأكثر التزاماً بأنظمة المرور، وأن المخالفات المرورية التي يرتكبنها تكاد تقتصر على الوقوف الخاطئ أو عدم ربط حزام الأمان، وبعض حوادث الارتطام بالمركبات الأخرى، سواء من الخلف أو بالوقوف المفاجئ، ما يحدث ضرراً بمركبتها والآخرين، دون أن تذكر الإحصائية شيئاً عن وقوع ضحايا من البشر في تلك الحوادث النسائية.