العيد في لبنان مختلف هذا العام. فمع قدوم عيد الأضحى يعيش اللبنانيون مآسي متتالية لا تنتهي، فيما تفقد المدن اللبنانية أجواء العيد المعروفة بها منذ قرون طويلة، لا زينة في الساحات ولا أصوات أهازيج العيد تسمع أمام محالها ودكاكينها.
يضاف إلى ذلك أن الواقع يغلي على صفيح ساخن، نتيجة الأوضاع المعيشية المتدهورة يوماً بعد يوم، حتى الازدحام المعهود ليلة العيد في المدن اللبنانية لم يعد موجوداً، والأوضاع الاقتصادية آخذة في الانحدار.
إضافة إلى هذا، يتزامن عيد الأضحى هذا العام مع وقف شركة الكهرباء عملها بسبب نفاد الوقود، ما قد يعرض المأكولات في المنازل إلى قنبلة غذائية قد تفتح المجال على حالات تسمم.
العيد في لبنان.. أجواء غائبة
في سوق العطارين التاريخي في مدينة طرابلس شمالي البلاد، والذي تحول منذ عقود طويلة لسوق خضراوات ومواد غذائية ولحوم، بعد أن كان سوقاً للعطارة والبهارات منذ العهد المملوكي، يقف نجيب، صاحب متجر لحوم، "يهش" الذباب عن قطع اللحم المعلقة والملفوفة بقطعة قماش مهترئة.
لا زبائن أمام دكانه، بينما يمسك بكيس من اللحم يحتوي على 100 غرام، في وقت بلغ سعر هذا الكيس 12 ضعف ما كان عليه قبل أزمة 2019، والتي انهارت أوضاع البلاد الاقتصادية على إثرها.
اللحوم حلم العائلات.. جزّارون دون زبائن
يتحدث نجيب وهو يهز رأسه قائلاً "لقد ذبحونا مثل الخراف، نعيش مأساة لم نعشها حتى في مراحل الحرب".
يلقي نجيب القماشة من يده، ليضيف أن "العيد وحتى في أيام الحرب والحصار منذ عقود كنا نشعر به، وكان الخير كبيراً جداً، والناس تعيش حياة كريمة أكثر من مرحلة هذا العهد الذي جوعنا وأبناءنا وأحفادنا"، على حد تعبيره.
وعند سؤاله عن الأضاحي ومدى الإقبال على ذبح الخراف في العيد هذا العام، أوضح أن عدد الأضاحي التي سيذبحها لزبائنه لا تتجاوز العشرين، بينما وصل الرقم عام 2019 إلى 318 خروفاً وعدد كبير من الأبقار.
نجيب يقول إن اللحم هذا العيد سيغيب عن السفرة اللبنانية في طرابلس، بسبب الغلاء المخيف وارتفاع الأسعار غير المسبوق، على حد قوله.
الشيخوخة المقهورة: الدولة تذلنا في آخر عمرنا
في زاوية صغيرة في السوق نفسه تجلس أم علي، وهي امرأة تبلغ من العمر 81 عاماً، على كرسي صغير جداً، لتقوم بحفر الكوسا والباذنجان. تعاني أم علي من مشكلة في السمع، لذلك تحتاج لرفع صوتك حتى تسمعك بالكاد.
وعند سؤالها عن الواقع الذي تعيشه في ظل هذه الأزمة لا تخفي السيدة دمعتها، لتجيب دون تردد "نعيش ذلاً لم نعشه في حياتنا، أنا سيدة كبيرة، والأصل أن تقوم الدولة برعايتي وتأمين الشيخوخة لي، لكنني أجلس في هذا السوق لحفر الكوسا والباذنجان للعائلات المتوسطة الدخل".
تمسك أم علي بمنديلها القماشي وتمسح دموعها على خدها المتجعد المنهك، تعرض علينا بيع بعض المنتجات التي تعملها، "اشتروا مني حتى أتمكن من شراء قوتي وقوت شقيقتي التي تعاني من شلل دائم".
"معمول العيد".. الحلوى الغائبة عن العيد
تشتهر بيروت بحلويات العيد، وتحديداً "معمول العيد" المحشو بالتمر أو الفستق أو الجوز، إذ لا يكاد يوجد منزل يمر عليه العيد دون شراء هذه الحلوى الشهيرة.
لكن في هذا العيد يبدو المعمول حلماً بعيداً عن العائلات. أمام متجر الحلويات في شارع منطقة "طريق الجديدة" في المدينة، يقف أبو محمد، صاحب أحد محال الحلوى الشعبية في المدينة، يبيع بعض زبائنه علب المعمول التي أنتجت في مصنع محله الصغير القائم في زاوية الساحة.
يتحسر الرجل على الأيام التي خلت، والتي بحسب قوله كانت "أيام العز والكرامة للمواطن في البلاد".
يفسر أبو محمد قصده بالقول إن الفقير ومتوسط الحال كان يخرج من دكانه وهو راضً عن كل شيء، "كنا نوزع مجاناً مئات العلب على الفقراء، لأن المواد الأولية كانت رخيصة ومتاحة، لكننا اليوم لا يمكننا فعل ذلك، لأننا بالأصل بات ربحنا ضئيلاً وقليلاً ولا يكفي العمال في المحل كرواتب شهرية".
ألبسة العيد.. الطقوس تتلاشى
في منطقة مارالياس في العاصمة بيروت، تتواجد أبرز أسواق الألبسة في العاصمة. يجلس معظم التجار هناك أمام محالهم قبيل العيد بساعات، الكلمة الفصل في هذه المرحلة "لا يوجد بيع وكأنه ليس العيد".
وعلى رصيف محله وسط السوق يجلس سامر شبارو إلى جانب جاره في المحل المجاور، وهو بائع الألبسة النسائية الشهير في السوق، يشرب فنجان القهوة من بائع القهوة المتجول، يمسح عرقه بطرف سترته الحمراء، وهو يقول إنه لم يبع سوى مرتين اليوم رغم أن العيد في الغد.
وأوضح أنه لا توجد حركة قوية للبيع ليلة العيد، يضاف إليها أن الإشكالات المتنقلة وقطع الطرقات ونفاد الوقود تمنع الناس من النزول لشراء حاجاتهم وألبستهم، ثم إن الناس لا تملك ثمن شراء ألبسة جديدة.
"كل التسعيرة على الدولار لأننا نشتري البضائع من فرنسا أو تركيا والصناعة المحلية ضعيفة ولا تغطي الأسواق اللبنانية"، يوضح محمد الذي يعول على مرحلة ما بعد العيد لأن الناس قد تشتري الألبسة في حال أطلق التجار عروض الحسومات.
في مقابل دكان شبارو يجلس ناجي عيتاني، بائع ألبسة رجالية في محله، يفاوض زبوناً على سعر قميص. يخرج الزبون منزعجاً دون شراء أي قطعة ملابس.
يوضح البائع أن هذا الزبون عنصر في الجيش اللبناني، راتبه لا يتجاوز المليون ونصف ليرة، بينما القميص الذي يرغب في شرائه سعره 500 ألف ليرة أي ثلث راتبه.
وأضاف: "البضائع الموجودة في الأسواق ليست صناعة محلية، بل يتم استيرادها من مصر أو تركيا بسعر الدولار، لذلك فموظف الدولة العسكري أو المدني لم يعد بمقدوره شراء شيء".
وفق الرجل فإن تجار الأسواق خسروا زبائنهم الرئيسيين، وهم الموظفون والعسكريون وغيرهم من أصحاب الدخل المتوسط، والذين باتت مداخيلهم لا تساوي شيئاً.
أزمة مقبلة.. والتحويلات تؤجل الانفجار
في ساحة الشهداء في مدينة صيدا، جنوبي البلاد، يقف الناس في طوابير كبيرة، كأنها طوابير توزيع المساعدات في الحروب، لكن الحقيقة أنها طوابير أمام شركات التحويلات الخارجية.
على مدخل الشركة تجلس فاطمة (مطلقة وأم لأربعة أطفال) تنتظر دورها لتسلم التحويلات من شقيقها في السعودية، لتشتري الطعام واللوازم الرئيسية للعيد.
تقول فاطمة لـ"عربي بوست" إنها تعمل عاملة نظافة في المدينة، وتتقاضى من صاحب عملها 700 ألف ليرة (أقل من 35 دولاراً) شهرياً، فيما تعتمد على شقيقها العامل في السعودية، والذي يرسل لها شهرياً 100 دولار أمريكي لتستمر في إعالة أبنائها.
تضع فاطمة الكمامة على وجهها وتقول إنها لم تدخل اللحم أو الدجاج إلى منزلها منذ أسابيع، وإن أطفالها يسألونها عن اللحم أو الدجاج وتحاول إيجاد عذر مقنع لهم.
تنتظر فاطمة العيد حتى تحصل ممن تسميهم "المحسنين" على قطعة لحم من الأضاحي، لتسعد أطفالها، لكنها تخشى في الوقت نفسه من عودة سؤالهم عن اللحم بعد العيد، متسائلة "هل سنجد ثمن خبز في ظل هذه السلطة؟".
في السوق الشعبي لمدينة صيدا يقف نهاد الجردلي على عربة عصائر متجولة، "لا يوجد كلام يصف حالتنا"، هكذا يقول.
الرجل يعتقد أنه وخلال السنوات القادمة، وفي حال بقيت الأمور على ما هي عليه، فلن نشعر أن العيد اقترب أو حل علينا.
يمازح الرجل زبوناً بالقول إن النزول للعمل "صار خسارة" لأننا نعمل دون نتيجة والبيع لا يكفي سوى ثمن البضائع التي نشتريها لصناعة العصائر، والتي تعتبر مادة رئيسية على طاولة الأطعمة والأشربة في الأعياد.
يتحدث الرجل بألم مستمر عن أزمات لا تنتهي من مأكولات العائلة في العيد وما بعد العيد، بحرقة شديدة يقول الرجل إنه يعيش خجِلاً أمام أولاده، حيث لا قدرة له على طبخ مأكولات العيد، وأنه لن يستطيع تأمين باقة الإنترنت لابنته كـ"عيدية" لها بسبب ارتفاع أسعارها بشكل جنوني بناء على قرار الوزير الأخير.
ويختم بالقول إنه لا يزال يطعم أبناءه فقط من خلال 100 دولار يرسلها شقيقه من إفريقيا، ودون ذلك لا يستطيع استكمال الحياة الطبيعية، ثم يستكمل طريقه نحو المجهول.