تتأمل الطفلة المغربية إحسان فلولي (12 عاماً) زينتَها في مرآة، قبل أن تجلس مثل عروس في كامل أُبّهتها على كرسي أخضر اللون، يُسمى "البرزة"؛ لأخذ صور في وضعيات مختلفة بقفطانها الأخضر الفاتح وتاجها الذهبي.
تتناوب عشرات الطفلات بقفاطينهن وحلي العروس، والأطفال بجلابيبهم لأخذ صور تذكارية، في إطار فعالية نظَّمتها جمعية الرسالة للتربية والتخييم بمدينة تمارة، بضواحي الرباط، احتفاء بالصائمين الصغار.
ويُعتبر الأطفال نجوم وأبطال العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث يُحتفى بصيامهم، في إحياءٍ لتقليد توارثته الأُسر المغربية جيلاً بعد جيل.
وتحتفل الأسر بصيام الصغار وفق تقاليد راسخة وطقوس متوارثة؛ تحبيباً لهم في الصيام حتى قبل سن التكليف.
وتُشجع الأمهات أبناءهن على صيام يوم 26 من رمضان، الذي يوافق ليلة 27، أو ليلة القدر في العرف المغربي؛ التماساً لبركة هذه الليلة المقدسة، وربطاً للأطفال بشعيرة الصيام التي تحظى بتوقير عظيم من المغاربة.
يشير الدكتور عبد الغني منديب في كتابه "الدين والمجتمع" إلى مكانة شهر رمضان لدى المغاربة، فيقول "رمضان هو الشهر الأكثر قدسية، والشعيرة الجماعية الأكثر كثافة على مستوى الممارسة، ويبدو ذلك واضحاً من خلال استعداد الناس الروحي والمادي لاستقبال هذا الشهر المقدس قبل حلوله، ويُشكل رمضان لعدد كبير من الناس مناسبةً تُحفزهم على المداومة على الصلوات اليومية".
ويُضيف: "يعتبر الصيام الشعيرة الأكثر كثافة بالنسبة لمبحوثينا -بالمقارنة مع باقي الفرائض الدينية الأخرى- في إظهار قدرة الإنسان على ضبط طبيعته البشرية، ما يجعل المرضى وكبار السن والنساء اللواتي لهن أعذار شرعية يمتنعون عن عدم الصيام، رغم الرخصة الشرعية الواضحة والصريحة التي تعفيهم من أداء هذه الفريضة الدينية. والأطفال غير البالغين أيضاً، الذين هم غير مكلفين بالصيام يُقبلون على أدائه بضعة أيام بتشجيع من آبائهم ومحيطهم الاجتماعي".
عرس جماعي مفتوح
خلال العشر الأواخر من رمضان تُنصب الخيام في الشوارع والساحات لاستقبال الصائمين الصغار والاحتفاء بهم، في عرس جماعي مفتوح، وفق التقاليد المغربية في تنظيم الأعراس.
يُحتفى بالصائمين الصغار داخل البيوت بحضور أفراد العائلة، وخارجها في الشوارع، في احتفال جماعي مفتوح تشرف على تنظيمه "النكافات"، أي المزيّنات، في خيام أو داخل محالّهن، حيث يُلبسن الفتيات ملابس تقليدية وحُلياً.
وتختار الفتاة المُحتفَى بها اللباس التقليدي والحلي الذي يروق لها من بين العروض المتنوعة التي توفرها "النكافة"، ما بين هيئة لباس رباطي أو فاسي أو أمازيغي أو شرقي أو صحراوي، فلكل منطقة من المغرب حليها الخاص ولباسها المتفرد.
قبل يوم من ليلة الـ27 أثثت المغربية زينب داني، صاحبة مشروع تعاونية عتبة خير، بضواحي الرباط، محلها بتجهيزات العرائس لاستقبال الفتيات الصغيرات الراغبات في تخليد مناسبة صيامهن الأول بزينة العروس وأخذ صور للذكرى.
ووضعت زينب داخل محلها قفاطين وملابس تقليدية وحلياً متنوعاً بتنوع الهوية المغربية.
بعد أن ترتدي الفتاة لباسها، وتضع الحلي والتاج، تُخضِّب "النقَّاشة" يديها الصغيرتين بنقوش الحناء، ثم تجلس لأخذ الصور التي تؤرخ لهذا الحدث المهم.
تقول زينب لـ"عربي بوست" إن تزيين الفتيات في ليلة القدر جزء من التراث المغربي الأصيل، وتكريم للصغيرات اللواتي يصمن لأول مرة.
واعتمدت زينب على الأصالة التقليدية في اختيارها تجهيزات الزينة، بما فيها "العمارية"، وهي هودج تُحمل عليه العروس ليلة عرسها، و"البرزة" الخضراء اللون، وهو كرسي كبير تجلس عليه العروس ليلة الحناء، والكرسي الملكي.
وتضيف: "هذا تراث ورِثناه عن جداتنا احتفاءً بالصغار وتشجيعاً لهن على الصيام، ولتعريفهن أيضاً على التقاليد المغربية، حتى يحافظن عليها كما حافظنا عليها نحن".
وتعتبر صور الفتيات الصغيرات والفتيان في ليلة 27 جزءاً من ذكرياتهم عند الكبر، فلا يكاد يخلو ألبوم صور شخصي من تلك التي تؤرخ للصيام الأول قبل سن التكليف.
وتحرص الأسر المغربية على دفع أطفالها لتجربة الصيام في سن مبكرة، فيبدأون في مرحلة أولى بما يعرف بـ"تخياط نهار الصيام"، أي يصومون صباح اليوم ويفطرون في الظهر، وفي اليوم الموالي يصومون من فترة الظهر إلى موعد أذان المغرب.
وبعدما يبلغ الطفل سناً يتحمل فيها الصيام، يصوم يومه كاملاً وسط تشجيع الأسرة التي تحتفي به داخل المنزل، وتقيم له احتفالاً بهذه المناسبة المميزة في حياته.
وتحضر الأمهات للصغار الصائمين لأول مرة كل ما يشتهونه من وجبات ويلبسونهم لباساً تقليدياً، ويجلسونهم على رأس المائدة تكريماً لهم على نجاحهم في هذا التحدي، ثم يأخذونهم بعد الإفطار إلى "النكافات" لتزيينهم والتقاط صور لهم.
ليلة مختلفة
تعتبر ليلة الـ27 من رمضان ليلة مختلفة في المغرب، إذ تقام فيها طقوس تميزها عن باقي ليالي رمضان، فتظل المساجد مفتوحة للصلاة والدروس الدينية طيلة الليل، وتقوى فيها أعمال الخير والصدقات.
يصف الدكتور عبد الغني منديب في كتابه ليلة 27 من رمضان، التي تُعرف بليلة القدر، بأنها تمثل ذروة القدسية والبركة، إذ تعرف كوقت مقدس متميز تُقدّر فيه جميع الأقدار، وتكون فيه أبواب السماء مفتوحة أمام دعوات السائلين وتعرف أجواء احتفالية متنوعة.
ويتم خلال هذه الليلة تطييب البيوت بالبخور، وتوزيع الصدقات وصلة الرحم، ويرتدي الصغار في هذا اليوم وهم يتوجهون إلى مدارسهم اللباس التقليدي، حيث تنظم لهم احتفالية بهذه المناسبة، وتؤخذ لهم صور باللباس التقليدي.
وتجتمع الأسر على وجبة الكسكس، فيما تتنافس النساء على إرسال قصعات منه إلى المساجد لإطعام المصلين خلال فترات الاستراحة التماساً للأجر والثواب.