لطالما كان منطق الحرب مُحيّراً للكثيرين، إذ يتمنى ملايين البشر من حول العالم أن ينتهي مفهوم الحرب بالقوة، وأن يوضع حد للعُنف على كوكبنا، مع العمل على إيجاد حلول أخرى لعلاج الاختلافات والنزاعات بشكل سلمي.
لكن الغريب أن الحرب استمرت من بدء حياة البشر على الأرض، ووصلت في بعض المناسبات إلى الاندلاع بسبب عوامل "غاية في التفاهة" إن جاز هذا الوصف.
فبداية من حروب اندلعت بسبب رسالة، أو كلمة تفوه بها أحد قادة الدول العظمى استفزت زعيم دولة جارة له، إلا أنه قد لا يصدق البعض أن هناك حرباً قامت ضد الطبيعة ذاتها.
ففي أستراليا، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، قامت الحرب ولم تقعد ضد طائر، وباءت في نهاية المطاف بالفشل، وانسحب منها الجنود خائبين مستسلمين.
نعم، ما سمعته صحيح، قام الجيش الأسترالي في ثلاثينيات القرن الماضي بالهجوم بكامل عتاده على طائر في الطبيعة. ثم أعلن انسحابه في نهاية المطاف بعد أن فشل في تحقيق أهدافه!
إليك التفاصيل الغريبة لما يتم تسميتها بـ"أغبى حرب على الإطلاق".
كيف جاءت بدايات الحرب؟
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أخذ أكثر من 5000 من قدامى المحاربين الأستراليين الأموال والأراضي من الحكومة لإنشاء مزارع في غرب البلاد القاسية والقاحلة، والعيش من خيراتها بعد استصلاحها.
كانت الحياة صعبة، لكنها لم تكن مستحيلة لهؤلاء المحاربين القدامى. ولكن خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، أضر الكساد الكبير بالاقتصاد العالمي، وأصاب الجفاف أستراليا بصورة خاصة، نتيجة لطبيعتها القاسية ومناخها الحار. والأسوأ من ذلك، غزت أسراب بلغت أعدادها أكثر من 20 ألفاً من طيور الإيمو المزارع الغربية وهددت إنتاجها، وفقاً للتقديرات آنذاك.
إذ هاجرت طيور الإيمو التي تشبه النعام في أحجامها، من وسط البلاد الحار بحثاً عن الأمان والماء، فوجدت الملاذ في الغرب، وتعلَّقت بقمح المزارعين اللذيذ.
وفي خبر لصحيفة The Sunday Herald الاسكتلندية، عام 1953، قالت نصاً "العدو هو لص قاس، غزير الأعداد، مهاجر من السهول الرملية التي غزت، في نوبة من الجوع، بعضاً من أفضل الحقول الزراعية في وقت نضج الحصاد، لتقتات على المحاصيل بمناقيرها الشرهة".
وبالتالي فقد تسببت طيور الإيمو في تدمير إنتاج المزارعين من المحاصيل، في وقت كانت فيه غلة المزارعين منخفضة بالفعل نتيجة للجفاف والكساد العالمي.
لكن هؤلاء المزارعين كانوا جنوداً قدامى في وقت ليس ببعيد، وما زالوا يمتلكون بنادقهم وأسلحتهم جراء مشاركتهم في الحرب العالمية الأولى. كما كان لديهم أقوى أسلحة استُخدِمَت خلال الحرب العظمى، وهي المدافع الرشاشة.
حتى إن أحد المحاربين المخضرمين في الحرب الغريبة قال لصحيفة The Herald: "هناك طريقة واحدة فقط لقتل الإيمو، وهي بضربه في مؤخرة رأسه عندما يكون فمه مغلقاً، أو من مقدمة فمه عندما يكون فمه مفتوحاً. هذا هو مدى صعوبة الأمر في حربنا ضد تلك الطيور".
ولفتت الصحيفة آنذاك أن الحكومة أقرت مدَّ 52 ألف مقاتل كتكتيك للحماية من "عدو" قد يكون في عُمر القارة الأسترالية نفسها، في حرب لا تهدأ ولا تُحسم نتائجها، وفقاً للتقرير.
ما هو طائر الإيمو وما مدى خطورته آنذاك؟
الطائر يزن ما بين 30 إلى 50 كيلوغراماً، ويقف بارتفاع يصل لما بين متر ونصف إلى مترين. وهو أحد أكبر الطيور على هذا الكوكب.
لا تستطيع طيور الإيمو الطيران، ولكنها تعوض تلك الإمكانية بامتلاكها سرعة جري فائقة، قد تصل إلى 50 كم في الساعة.
تعيش تلك الطيور في مجموعات، وتتكيف مع البيئة، إذ تعيش في واحدة من أقسى المناخات على وجه الأرض، وهي براري أستراليا.
لذا فقد قامت الطيور الجائعة بالفعل بنهب المحاصيل، وهدمت الأسوار، واستهلكت كميات غزيرة من المياه.
ونتيجة للخطر المحدق بفرصهم في العيش والعمل، سافر وفد من المزارعين الغربيين إلى العاصمة الأسترالية كانبرا، حيث طلبوا المساعدة من الحكومة لمحاربة التهديد الاقتصادي والنقدي.
وبالفعل وافقت الحكومة، وأرسلت الأسلحة اللازمة لمواجهة الطيور بشكل عسكري، إذ أرسلتها لاستخدامها من قِبَل الجنود النظاميين، وليس المحاربين القدامى، بمعنى أن المواجهة مع الطيور أصبحت عملية عسكرية رسمية.
وأمر الرائد جي بي ميريديث، قائد البطارية الثقيلة السابعة للمدفعية الملكية الأسترالية، بقيادة المهمة التي انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1932، بحسب مجلة Atlas Obscura للتاريخ والتوثيق.
وبمجموعته الخاصة، خطط الرجال لإبادة الطيور بواسطة رشاشين من طراز لويس، التي يمكنها إطلاق 500 طلقة في الدقيقة الواحدة، بالإضافة إلى مخزون من 10 آلاف طلقة من الذخيرة الحية.
كان الجنود -النظاميون بالإضافة للمحاربين السابقين- واثقين من أن الطيور قد انتهت تماماً، ومع ذلك كان لطيور الإيمو رأي مُختلف.
بدء الحرب ضد الطيور التي "أثبتت ذكاءها"
أقام ميريديث ورجاله معسكراً في مستوطنة صغيرة في مدينة كامبيون، بأستراليا الغربية، حيث تجولت مجموعة من 50 من طيور الإيمو في مكان قريب، وخططوا لقتلها بالرشاشات.
للمفاجأة، لم تكن طيور الإيمو غبية، حيث ركضت لخطّ الشجر القريب واحتمت من النيران، لذلك أخطأت الجولة الأولى، لكن الثانية أصابت عدة طيور، حدَّد هذا المشهد إيقاع الصراع في الحرب ضد الطيور، فقد استخفّ الجنود بذكاء الإيمو، واكتشفوا الاستخدام غير الفعال للمدافع الرشاشة مع انخفاض عدد الضحايا من الطيور.
قرّر ميريديث ورجاله أنهم سينتصرون في الحرب من خلال الكمائن، ولهذه الغاية أنشأوا مواقع مخفية بالقرب من إمدادات المياه، وانتظروا وصول الطيور إليها.
بعد أسبوعين من بداية الحرب، تحرك حوالي 1000 من طيور الإيمو من بين الأشجار باتجاه الماء، الذي كان ميريديث وبنادقه وجنوده في الانتظار بمحاذاته.
ومع فتح النيران ببنادق لويس سقط العديد من الطيور، وفرت المئات من الطيور الناجية من الإيمو إلى الأشجار الآمنة ولم تعد أبداً.
ذكرت صحيفة Kalgoorlie Miner الأسترالية في ذلك الوقت: "لقد أثبتت الإيمو أنها ليست غبية جداً كما كنا نعتقد".
كانت الطيور أكثر ذكاءً وأسرع مما كان متوقعاً، وسريعة جداً لدرجة أنها غالباً ما كانت بعيدة عن نطاق المدافع الرشاشة، قبل أن يتمكن الجنود من التصويب وإطلاق النار.
لذلك قرر ميريديث تركيب رشاش لويس على إحدى شاحنات المزارعين، لكن لسوء الحظ لم تسِر الأمور على ما يرام.
عندما أثقلها المدفعي وسلاحه البالغ وزنه 20 كيلوغراماً كانت المركبات لا تزال غير قادرة على مواكبة الإيمو، والأسوأ من ذلك أن الرحلة الوعرة جعلت من المستحيل التصويب.
حملات شرسة ضد الجنود بعد الإخفاق المدوّي
استمرت الحملة العسكرية التي لم تكن الصحافة المحلية لطيفة تجاهها أو تجاه الجنود، فقد تسببت التغطية اللاذعة في قيام الحكومة الأسترالية باستدعاء القوات.
لكن المزارعين احتجوا، وعاد ميريديث ورجاله إلى الحرب ضد الإيمو، في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني مجدداً، وحينها أرسل القائد تقارير إلى العاصمة حول الدمار الذي حققه في حربه على الطيور لتصحيح صورته.
ووفقاً لمريديث، تم قتل ما يقرب من 1000 من طيور الإيمو بعد أن أطلق رجاله كل ذخيرتهم. وزعم أن 2500 أخرى من تلك الطيور قد ماتت متأثرة بجروحها بعد تعرضها لإطلاق النار.
وتوضح مجلة Medium الأمريكية أن هذه الادعاءات من المستحيل التحقق منها، ومع ذلك تتراوح تقديرات عدد القتلى من الإيمو من المراقبين الآخرين بين 100 إلى 1000 طائر، لذا يظل العدد الصحيح غير معروف حتى اليوم.
انسحاب واستسلام أمام قدرة الطيور على البقاء
ما نعرفه بشكل واضح هو أن القائد العسكري ميريديث كان معجباً بقوة خصمه، إذ كتب في تقريره الذي نشرته Medium: "الإيمو طائر يصعب قتله على الفور، والعديد منها تظل تسير بإصابات مميتة لمسافات طويلة، تصل إلى نصف ميل كامل".
وبالتالي كان من الواضح للبرلمان آنذاك أن الطيور قد انتصرت، وأن حملة ميريديث كانت غير فعالة، إلا بإسقاط نسبة ضئيلة من أعدادها في المنطقة.
فعاد القائد ورجاله ورشاشات لويس إلى الشرق في بداية ديسمبر/كانون الأول، تاركين المزارعين ليدافعوا عن أنفسهم ضد تهديد طيور الإيمو.
وأخيراً.. إعلان نهاية الحرب
تشير مجلة Scientific American العلمية، أن الجنود القدامى المزارعين وطموحاتهم في العمل والكسب، في فترة الكساد العظمى، حفّزتهم لمواصلة الصراع ضد الطيور العظيمة.
ولسوء حظ الجنود العسكريين وسُمعتهم التي كانت مزحة الصحف في ذلك الوقت، قررت الحكومة توفير الذخيرة التي يحتاجها السكان المحليون للتعامل مع المشكلة بأنفسهم.
وبالفعل تم قتل حوالي 57.034 من طيور الإيمو خلال ستة أشهر فقط من العام 1934. وقد تقهقرت الأعداد الباقية من الطيور من المنطقة وعاودت تمركُزها في البراري بصورة تدريجية.
لتبقى الحرب ضد الإيمو، وخسارتها خسارة فادحة أمام العدة والعتاد والتكتيكات العسكرية للدولة، واحدة من أغرب الحروب التي اندلعت في تاريخ البشر.